تبديل توجّهات بيئة المقاومة.. هدف إعلام العدو
إنّ أحد أهم ميّزات بيئة المقاومة هي البصيرة التي يعرّفها الإمام خامنئي بأنها "الوعي والتنبّه والتيقّظ ورسم الاتّجاه الصّحيح".
-
تنطلق بيئة المقاومة في لبنان مجرّدةً من المخاوف ومفعمةً بالإرادة
مهنة الإعلام، كأيّ مهنةٍ ثقافيّةٍ، ينبغي أن تخضع لمتطلّبات النّظام وقواعد الأخلاق. ومن الواجب أن لا تبقى تعطّشاً لنشاطٍ لا يُكبَح، أو تبديداً لقوى في خدمة قضيةٍ باطلة. وحتى عندما يتّخذ الرّجال الصالحون منها رسالةً، فإنها تُحتّم وجود مزايا وفضائلَ وقيَمٍ وأدواتٍ ومواهبَ تترافق ومزاولتَها والتمرّس في أدائها.
وكما الشجاعة والحماسة عنصران أساسيان في إبراز الفعالية المطلوبة في مزاولة مهنة الإعلام، يأتي التعصّب والمكر ليُفرغا نطاقها الإنساني ومشروعيّتها الإجتماعية، فينشأ على إثرهما جوٌّ مشحونٌ بالقلق والنزاعات والأزمات. إنّ الإعلام مجالُ الفضائل كما الرذائل ومن البديهيّ أن يتأثّر بنوع السلوك الذي ينتهجه الإعلامي. فالنوع الأول – أي الفضائل - يقود إلى الوحدة والإنسجام والمحبّة ومعالجة المشكلات والتّعاون على حلّ الخلافات وتخفيف التوتّرات وتشجيع الخير بكل مساراته، بينما يقود النوع الثاني - أي الرّذائل - إلى تعميق الشروخات والفروقات والعداوات بين أفراد المجتمع مستعيناً بكل حيلةٍ ومكيدةٍ لتحقيق مآربه، وإن لزم في بعض الأحيان استغلال "الحرّية" أو "الذكاء" في صرف مقاصد الناس وتبديل توجّهاتهم وحرف أنظارهم واستغلال جهلهم.
في النّوع الأوّل يحتلّ العقل موقعاً تأسيسيّاً في نُظُم الأفعال، فيما يعتمد النّوع الثّاني على الغرائز والأهواء والمصالح الشخصيّة التي تزيد من ضبابيّة الشّك لدى المُتلقّين وتعيق سَيْر الأحداث وكشف الحقائق. اليوم، ورغم كلّ الجدل الذي يدور حول مسؤوليّاتٍ شخصيّةٍ أوعامّة، تميل الوقائع المرصودة إلى اللاّمبالاة والإستهانة الناجمتين عن التّكوين الفكريّ والأخلاقيّ أو نتيجة فساد النّظام.
إنّ الإعلام في عصرنا الرّاهن بات يوحي الاشمئزاز والنفور بسبب التفلّت من الضوابط النظريّة والعمليّة واللّجوء إلى وسائل التّضليل والتمويه والتعتيم والإخفاء والإغراء والحِيَل، ما يُرتّب جهداً كبيراً على المُتلقّي في عمليّة فحص المواد المنشورة أو متابعة الإدارات المسؤولة والرّقيبة بغية تهذيبها وصَونها من كلّ ما يمكن أن يُخلَّ أحياناً بالمعنى أو الصورة فيُعيق عمليّة الفَهمِ والإفهام.
جميعنا يعلمُ حجم ما يُضَخُّ من أموالٍ أو يُخطَّط له من مشاريعَ بهدف السيطرة على العقول وتشتيت انتباه الجماهير وتضليلها أو الإيقاع بقوى الحقّ باستخدام وسائلَ ترغيبيّةٍ أو ترهيبيّةٍ قادرةٍ على صرف الخصم عن الهدف الحقيقي. ويمكن ببساطةٍ أن نستعرض ما تعرّضت له المقاومة في لبنان وجمهورها من حروبٍ إعلاميّةٍ بأساليبَ تدليسيّةٍ وتمويهيّةٍ من خلال إلباس الكذب صِفة الصّدق والباطل صِفة الحقّ، أو من خلال استخدام العدو حجّةً مقبولةً في الظّاهر فيما يضمر في الباطن هدفاً مُموّهاً.
فمِن أمضى أسلحة العدو هو التلبيس والتدليس والحُجج المرائيّة الملتوية والخديعة والمكيدة ليضعَ المقاومة في حالةٍ من الضّعف، ويضع الجمهور المؤيّد لها في حالةٍ من الحيرة والإضطراب والشكوك القاتلة، وهذا ما كان يحذو بالأمين العام لحزب الله في بعض الأحيان إلى مخاطبة الناس، مُفنّداً المغالطات، كاشفاً المآرب الخبيثة وناقضاً لها.
هنا، تظهر أهميّة الإعلام المقاوم والملتزم بقضايا الحقّ والإنسان، والذي يكشف المغالطات الشّائعة بغية نقضها سريعاً والتصدّي لمختلف أساليب التضليل والكذب في طيّاتها. ويقودنا هذا الكلام نحو الإشارة إلى أنّ العزيمة الصّادقة قد تكون صفةً كافيةً وإن كان العمق الفكريّ أو الذكاء الخاطف غير حاضرين. إنّ المسألة هنا لا تعود إلى الحزم والصّلابة فحسب، بل إلى سرعة البديهة.
إنّ الإعلام ساحةُ حربٍ حقيقيّةٍ لا يتطلّب العمل فيها الحماسة والجهد المهنيّ وتحمّل المتاعب فحسب - وهذا ما نجده لدى الكثيرين - وإنّما يتطلّب أيضاً الإحتكام إلى الفهم الخاطف ضد مكائد العدو، وسرعة المبادرة في اتّخاذ القرارات المناسبة. ويجدر بمن يعمل في هذا المجال أن يكون دارياً بأصول الصّناعة وضوابطها، وأن يمتلك قدراتٍ تحليليّةً وتقويميّةً تمكّنه من أن يستشفّ الحقيقة ويقدّرها غريزياً لينتصر على عدوّه.
إنّ الظّروف الضّاغطة والوقائع المتبدّلة لا تترك وقتاً كافٍ للرّوتين والبيروقراطيّة المعتادة، لذلك يتحتّم على الفكر أن يكون مستنفراً بصورةٍ دائمة. وقد نضرب مثالاً على ذلك ما جرى قُبيل إحدى خطابات الأمين العام لحزب الله، إذ خرج رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو مدّعياً بأنّ حزب الله يخزّن أسلحةً في مكانٍ قريبٍ من الضّاحية الجنوبيّة، فلم يتأخّر الأمين العام في الردّ مباشرةً على الهواء والطلبَ من وسائل الإعلام التوجّه فوراً إلى المنشأة المزعومة وكشف زيف إدّعاءات نتنياهو بسرعةٍ حاسمة. في كلّ الأحوال، إنّ بعض الإعلام يستخدم في معاركه التّضليل والمغالطات وبعضها يستخدم أساليب التهجّم والإستعلاء، وسنذكر هنا بعض الأساليب التي تترك أثراً حاسماً وخطيراً على ساحة المعركة الثّقافية وفي الساحات الأخرى.
أوّلاً: التكذيب، كاتّهام الخصم بأنهّ ينفّذ أجندةً خارجيّةً، فيما هو في الحقيقة يدافع عن قضيّةٍ إنسانيّةٍ ووطنيّة. نذكر على سبيل المثال اتهام المقاومة بأنها "ذراعٌ إيرانيّة" بزعمِ أنّ ما تقوم به هو لمصلحة إيران وليس لمصلحة لبنان، أو اتهامها بأنّها أساس المشكلات الاقتصاديّة والماليّة في البلد بسبب "سلاحها"، فيما الحقيقة هي أنّ الأزمة سببها الطائفية والفاسدين والمحسوبيّات والمُحاصصة. وفي الحالتين سيقوم الإعلام الكاذب بإنشاء قضيّتين أوّلاها: إنّ ادّعاءكم بأنّكم مقاومةٌ وطنيّةٌ ادّعاءٌ كاذبٌ، وثانيها بأنّ ما تزعمونه من أنّ المشكلة الإقتصاديّة سببها الطائفيّة ونحو ذلك لا يمكن أن تكون صادقة!
ثانياً: التشويه، وهو أسلوبٌ لطالما استُخدم في إضعاف الخصم وحرفه عن أهدافه، فمثلاً استعملت أميركا وحلفاؤها كلماتٍ ضد المقاومة ووصفتها بأنها "إرهابيّة" و"متطرّفة" لمنع المقاومة من مواصلة عملها العسكري ومواجهة التهديدات على لبنان، أو أنّ المقاومة تقوم بـ "تبييض الأموال" وتعمل في "تجارة المخدرات" بغية عزلها داخلياً وخارجياً وتجريمها من خلال محاكم تُعنى بحقوق الإنسان. يهدف هذا التّشويه المسّ بأشرف مبادئ المقاومة وسمعتها الحسنة وأخلاقها في التّعامل مع الأصدقاء ومع الأعداء أيضاً، ممّا سيجعلها عرضةً للمساءلة أو الرّيب والشكوك عند ضعاف النفوس الذين سيفسّرون سلوكها من باب الإستغلال وليس لأجل قضية محقّة!
ثالثاً: استخدام الحيل، إذ يلجأ العدو إلى مدحك أحياناً ليهزّ قِيم المؤمنين بك. فالمدح هنا هو من بابِ ضرب معنويات القاعدة الشعبية التي تظنّ أنّ المبادئ هي شيء مقدّسٌ لا يُمسّ، لكنّها تكتشف من خلال هذه الحيلة أنّ الشخص الذي تؤمن به والحزب الذي تواليه، إنما يلجأ إلى البراغماتيّة والانتهازية والواقعيّة المُفرِّطة بالحقوق والثوابت! على سبيل المثال في قضية ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وفلسطين المحتلّة لجأ الإعلام إلى إظهار المقاومة وقيادتها بأنها متلاعبة وتخفي أشياء عن جمهورها وتمارس سياسةً ضعيفةً تجاه العدو، ما يعني أنّ كل خطابات التّعبئة والثوريّة هي في الواقع تضليلٌ للجماهير وأنّ الحقيقة هي شيء آخر!
نعم، قد تنطلي هذه الحيلة على الكثيرين وقد ينقلب الموقف أزاء المقاومة بسبب هذه الأساليب، حين تتكلّم الجماهيرعن تعارضٍ بين دعوى المقاومة إلى الثوريّة والمبدئيّة وما يجري في الواقع. إنّ هذا التلبيس الإعلامي الخطير من شأنه أن يترك أثراً سيّئاً على معنويّات الجمهور المؤيّد للمقاومة من خلال ما تضمّنته الأخبار الإعلامية من تلاعبٍ بتصوّرات الجمهور بغية خداعه.
رابعاً: إغضاب الخصم، وهو أسلوبٌ يعتمد على إثارة اتهاماتٍ متواصلةٍ ضد الخصم في وسائل الإعلام ليجرّه إلى ردود فعلٍ متهوّرة وهذا ما سيكون مناسباً لتجريمه والضغط عليه وإكراهه على التنازل عن قضايا مبدئيّة، أو أنّه سيكون بحالةٍ لن تمكّنه من السيطرة والتحكم بقراراته وخياراته. إنّ استعمال أسلوب الاستفزاز والإهانة له مفعولٌ خطيرٌ في إثارة جمهور الخصم وجرّه إلى تنفيس الإحتقان بطرقٍ عنيفة وغير عقلانية تماماً كما حصل خلال أحداث 17 تشرين الأول/أكتوبر وبعدها عام 2019. فالإهانات التي تعرّض لها الأمين العام لحزب الله شخصياً ومباشرةً على الهواء عبر وسائل إعلامٍ مختلفة، كادت تتسبّب بفتنةٍ واسعة النطاق، وهذا ما كان يرمي إليه العدو في تهشيم النموذج الأخلاقي الذي يحمله حزب الله طوال سيرته الجهاديّة.
خامساً: تعميم العيوب الفردية والخاصة، وهو أسلوبٌ العدو إذ لا يُقدّم عبر إعلامه الأخطاء التي يرتكبها خصومه على أنها أخطاءٌ أو تصرفاتٌ فرديّةٌ شاذّة، بل يسعى بكل جهده إلى تحويلها إلى وضعٍ عامٍّ وسلوكٍ عامٍّ وحقيقةٍ معترفٍ بها. وهذا ما سيكوّن انطباعاً لدى الجمهور بأنّ أفراد الحركة الفلانيّة أو الدولة الفلانيّة كلهم سيّئون وفاسدون ومتطرّفون وعلى نحوٍ ذلك من النّعوت المشينة.
سادساً: تهشيم القِيَم التي يحملها الخصم، إذ لا يترك العدو وسيلةً إلا استغلّها في تهشيم قِيم الخصم وتوهينها. فالمقاومة على سبيل المثال ستكون حالةً سلبيّةً لأنها تدعو إلى ثقافة الموت فيما يجدر بالإنسان أن ينشأ على قِيم الحياة والسلام والمحبّة والرّخاء! فالإعلام بمقدوره تحويل فعل التّضحية والفداء في مواجهة الظّالمين والمستكبرين إلى حالةٍ موتٍ مجانيٍّ واستنزافٍ لموارد الدولة وهدرٍ للطّاقات الشابّة ومعاداةٍ للمجتمع الدولي. طبعاً، العدو يريد هدم قِيم العزّة والكرامة في نفوس خصومه عبر مغالطات إعلامه.
إنّ بعض هذه الوسائل التي أوردناها تُستخدم في مجال الإعلام وتهدف إلى تشويه المفاهيم حتى ولو كانت تتناقض مع حقائق تاريخيّةٍ ودينيّةٍ وقانونيّةٍ، فتجعل الإعتراض عليها أمراً مثيراً للسخرية مما يجعل الناس تؤمن بصحّة الأسس التي ينطلق منها هذا الإعلام ويُعتبر كلّ معاندٍ لها ثائراً على آراءَ مؤيَّدةٍ ومقبولةٍ عالمياً! إنّ الإعلام اليوم لا يكتفي بالتّشويه فقط وإنما يلجأ إلى تزييف الحقائق وتغيير الوقائع بل ابتداع واختلاق القضايا التي تثير اضطراباتٍ وخلافاتٍ بين الناس والمجتمعات والدول؛ في حين أنّ الإعلام الصادق الذي يتحلّى بالشجاعة هو مَن سينتصر لقضايا العدل والحق، وهو القادر في صدقه وقوّة المُثُل فيه أن يحارب الظّلم ويتجنّبَ اليأس ويكون مادّة أملٍ وعملٍ لأفضل ما تتطلع إليه البشريّة.
وهنا، لا بدّ أن نشير إلى أنّه من الخطأ التعامل مع هذه التأثيرات الدّعائية من خلال العقل وحده، فالناس يتأثّرون بعواملَ لاشعوريّةٍ مثل المخزون التّراثي والجهل والعاطفة والمصلحة والأنويّة، مما يحجب الحقيقة ويحول دون وصولها إلى عقولهم، بل إنّ معظم الناس لا يتقبّل الأدلة والبراهين العقلية، بل يميل أغلبهم إلى الانحيازات التي تنشأ بسبب العوامل اللآنفة ذكرها.
لذلك، حين نريد جذب شخصٍ أو مجموعةٍ أو شعبٍ وإقناعه، علينا أن ندرس بيئته الاجتماعية وقِيمه ومعتقداته كخطوةٍ أساسيّةٍ لفهم اتجاه مصالحه ونوازعه وعواطفه ومستوى ثقافته من أجل إيجاد الطريقة المناسبة في التعامل معه. إنّ ما يميّز سماحة السيّد حسن نصر الله في خطاباته مع بيئة المقاومة وحتى مع البيئات الصديقة الأخرى، هو قدرته على الوضع في حسبانه كل تلك العوامل فيتسلّل منها إلى العقل بالإتيان بأدلّةٍ منسجمةٍ مع عواملها اللاّشعوريّة، بحيث لا تتعارض مع أسس الأخلاق وشروط التوافقات الإجتماعية.
ورغم مهارة العدو وإتقانه فنّ الإعلام، إلاّ أنّه لم يستطِع أن يحقّق نجاحاتٍ حاسمةً داخل بيئة المقاومة، بل إنّ معظم الحملات كان مردودها عكسياًّ. ويعود ذلك إلى وعي هذه البيئة التي تعي أنّ العدو بارعٌ في التمثيل، ولكنّه لا ينال إعجابها ولا تصفّق له ولا تطرب لاختلاقاته وتدرك أنهّ لا يجدر بها الوقوع في الأخطاء التي سبق ووقعت فيها شعوب أخرى في المنطقة والعالم عندما انطلت عليها حيل العدو وأكاذيبه فانزلقت إلى الفتن والنزاعات الدمويّة.
إنّ أحد أهم ميّزات بيئة المقاومة هي البصيرة التي يعرّفها الإمام خامنئي بأنها "الوعي والتنبّه والتيقّظ ورسم الاتّجاه الصّحيح". فإذا كان المطلوب هو عدم الردّ على الاتّهامات والأكاذيب ساد السكوت. وإذا كان هناك ما يستدعي التوضيح فإنّ الجدال يكون موضوعيّاً، لا تدخل فيه القضايا الشخصيّة والمهاترات الصّغيرة. وإذا كان هناك من يستعمل الشّتيمة والسّباب فالردّ يكون أحياناً بالنّصيحة أو الإعراض والتّغاضي.
فلكلّ حالةٍ خصوصيّتها وموقفها الذي يتناسب مع "الرّشد والدّراية" اللذان يحتّمان أعلى مستويات الحذر وكظم الغيظ والحُلُم والصّبرعلى الأذى وغيرها من التّصرفات الأخلاقيّة التي تفوّت على الخصم أو العدو مآربه. فالميدان يتطلّب الاقتدار المعنوي كما يرى الإمام خامنئي أي "عدم الإكتراث للألاعيب الماديّة والدنيويّة والانتقادات السياسيّة الهابطة ورميها كمنديلٍ لا قيمة له في سلّة المهملات" والبصيرة هي أيضاً "البوصلة وكشّاف النّور".
وعلى هذا الأساس، تنطلق بيئة المقاومة مجرّدةً من المخاوف ومفعمةً بالإرادة، لا تستسلم للضّياع والحيرة بل تقرّر دخول المعتركات الجديدة بكلّ شجاعةٍ وتبادر إلى تحقيق فرصةٍ جديدةٍ بتألّقٍ أكبر.