حين شعر مناحيم بيغن بتأنيب الضمير!
مع حلول أيلول/سبتمبر 1983 وعندما قارب عدد قتلى جيشه في لبنان 1000 جنديّ، فقدَ بيغن اتّزانه ودخل في حالة اكتئابٍ حادّة.
أملى مناحيم بيغن، شروطه على أنور السادات، من أجل إعادة سيناء إلى السيادة المصرية. وكانت شروطاً تعجيزية، فعلاً تعجيزية، من شأنها أن تفسد أي اتفاقٍ لو كان الطرف المقابل لديه الحد الأدنى من احترام الذات أو التمسك بثوابت الكرامة الوطنية.
إذ لم يكتفِ بيغن بموافقة السادات على التخلي عن فلسطين كلها، وإبعاد مصر عن كل ما يتعلّق بمستقبل قضيّتها وعزل مصر عن العرب، كلّ ذلك لم يكن بنظر بيغن كافياً. وقد شجّع تهافت السادات ولهفته لإبرام اتفاق، بأي صورة كانت، بيغن، على إملاء شروطه التي وافق عليها كلها السادات في نهاية المطاف.
لن يتواجد الجيش المصري في سيناء، ستنتشر قواتٌ من الشرطة والأمن المصري لحراسة الحدود من المتسلّلين. وستتواجد تلك القوات بأعدادٍ متّفقٍ عليها وفي أماكن محددة ومعلومة. وطبعاً لن يكون هناك أية قواعد عسكرية للجيش المصري هناك.
وستكون سيناء منزوعة السلاح، ولن تحمل قوات الشرطة والأمن سوى أسلحة خفيفة (بنادق ومسدسات). ستكون هناك قوات أميركية ترابض بشكلٍ دائم على الجانب المصري من الحدود للمراقبة وإرسال التقارير. ستكون سيناء مفتوحةً "للإسرائيليين"، يدخلونها في أي وقتٍ وبدون تعقيدات. سوف تستفيد "إسرائيل" من الثروات الطبيعية الموجودة في سيناء. وسوف تحصل على النفط والغاز منها بشكلٍ مضمونٍ وبسعرٍ تفضيلي ومحدّدٍ على المدى الطويل. وهناك ملاحق سريةٌ غير معلنة، الله أعلم بمضمونها، ربما بها تفاصيل ترتيباتٍ أمنيّة مشتركة موجّهة ضد المقاومة.
من يتمحّص في هذه الشروط كلها، سيرى أن "إسرائيل" لم تخسر شيئاً حقيقياً، وأن تلك "الإعادة" أي عودة سيناء إلى مصر، تكاد تكون مسألةً شكليّةً لا تزيد عن احتفالاتٍ لرفع العلم المصري.
وبرغم هذه الإتفاقية التي لم تكن "إسرائيل" تحلم بمثلها، كان مناحيم بيغن يشعر بتأنيب الضمير! إذ كيف يُعيدُ أرضاً صارت في حوزة "إسرائيل" إلى العرب؟! حتى لو كانت سيناء التي ليست جزءاً من فلسطين التاريخية، فمجرّد "تنازل إسرائيل" عن أراضٍ للعرب أمرٌ كريهٌ ومرٌّ على نفس الزعيم الصهيوني.
في شبابه، ساهم مناحيم بيغن بفعاليّةٍ في تأسيس "دولة إسرائيل" وتنفيذ الحلم الصهيوني، وكان هو شخصياً بطل مذبحة دير ياسين عام 1948 والتي أدّت إلى تفريغ مناطقَ واسعةٍ من أهلها في فلسطين. كان يعتبر أن كلّ شبر أرضٍ سيطرت عليه "إسرائيل" ثمنه العرق والدم، والتخلّي عنه أصعب على النفس من قلع الأظافر وفقء العيون!
قرّر مناحيم بيغن تعويض خسارة الأرض حتى يُرضي ضميره، وحتى يقول لنفسه أنه أرجع أرضاً إلى العرب ولكنه حصل على أرضٍ أخرى مقابلها! وفي حزيران/يونيو 1982، بعد 5 أسابيع فقط من انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء، أطلق الوحش الصهيوني سُعارَهُ على لبنان. فأرسل جيشه المطمئنّ إلى هدوء جبهته الجنوبية، إلى لبنان للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية هناك.
وبالفعل، لم يتوقف الوحش الصهيوني إلاّ بعد أن أسالَ بُحوراً من دماء العرب في لبنان وبعد أن احتلّ لبنان واجتاح عاصمته ودمّرها تدميراً كاملا. عندها، ارتاحت نفس مناحيم بيغن وقرّت عينه. فقد حصل على التعويض المناسب مقابل "تنازله" عن سيناء. ولبنانُ طبعاً أفضل من صحراء سيناء، فهو تعويضٌ مناسب.
كان ذلك الغزو الفظيع اختباراً "إسرائيلياً " لمصر، ومدى استعداد مصر الالتزام بتعهّداتها في كامب ديفيد (هناك بندٌ في المعاهدة ينصّ على أولوية التزام مصر بها فوق أي اعتبار آخر وفوق أي معاهدة دولية أخرى قد تكون مصر أبرمتها – مثل معاهدة الدفاع العربي المشترك...). ونجحت مصر في الاختبار، ولم تحرّك ساكناً وبقيت تتفرّج على لبنان وهو يحترق دون أن تفعل شيئاً حقيقياً.
كل ما فعله نظام كامب ديفيد (برئاسة حسني مبارك، خليفة السادات) هو أنّه، وبعد أكثر من ثلاثة أشهر من بدء الغزو، استُدعيَ السفير المصري من تل أبيب لفترةٍ محدودة (مجرّد استدعاء، وليس إغلاقٌ للسفارة ولا قطع للعلاقات الدبلوماسية). ذلك كان أقصى ما فعلته مصر، أكبر بلدٍ عربي، رداً على اجتياح "إسرائيل" الشامل لبلدٍ عربيٍّ شقيق واحتلال عاصمته.
والحقيقة أن ذلك الغزو الصهيوني للبنان، لم يكن أوّل اختبارٍ لنظام كامب ديفيد. فمباشرةً بعد زيارة السادات للقدس، قامت "إسرائيل" عام 1978 بغزوٍ جزئي ضد لبنان، اتّسم بالوحشيّة والتدمير، وصلت فيه القوات الإسرائيلية إلى حدود نهر الليطاني. طبعاً، لم يفعل السادات شيئاً واجتاز الاختبار الصهيوني بنجاح.
ولكن الأمور في لبنان لم تسِر كما يشتهي بيغن. فبعد فترةٍ قصيرةٍ من الصدمة الناتجة عن خروج منظمة التحرير من لبنان، بدأت تتبلور على الأرض مقاومةٌ جديدة، لبنانية هذه المرّة، خصوصاً في الجنوب، أشدّ عزماً وإصراراً وأكثر التصاقاً بالناس وتعبيراً عنهم. تدريجياً، تصاعدت عمليات المقاومة اللّبنانية وزادت معها خسائر الجيش الإسرائيلي. وشيئاً فشيئاً، صار إصابة الجنود والأخبار عن أعداد القتلى في صفوفهم تتصدّر نشرات الأنباء في "الكيان الصهيوني".
ومع كل جنديّ قتيل، كانت تزداد هموم بيغن وأحزانه، إلى أن كانت الكارثة في تشرين ثاني/نوفمبر 1982 عندما نجحت المقاومة اللبنانية في تفجير مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي في مدينة صور وتدميره تدميراً كاملاً، وهو المركز الرئيسي للجيش الإسرائيلي في لبنان، مما أدّى إلى مقتل حوالى 80 عنصراً من الضباط والجنود دفعةً واحدة!
كان تأثير تلك العملية على مناحيم بيغن تأثيراً نفسياً عميقاً. الصدمة كانت قاسيةً وهو لم يكن يريد ولا يتوقّع هذا المصير "لأبنائه" الجنود. وظهر تأثير عملية صور واضحاً على بيغن الذي أصبح حادّ الطّباع وبات تعامله مع عملائه وحلفائه في حزب الكتائب اللبنانية وحكومة أمين الجميل أشدّ جلافةً وصَلَفا.
استمرت الأمور على هذا المنوال خلال 1983، لا بل زادت سوءاً بالنسبة لبيغن الذي وجد نفسه عاجزاً عن وقف العمليات الفدائية المتصاعدة في جنوب لبنان رغم كلّ البطش والتنكيل الذي يمارسه جيشه وصارت قيادات الجيش الإسرائيلي تضغط على بيغن من أجل الإنسحاب حفاظاً على أرواح الجنود. وجد بيغن نفسه مرغماً على قبول انسحاباتٍ صغيرة وتدريجيةٍ من الأراضي اللبنانية باتجاه الجنوب، حتى وصلت القوات الإسرائيلية إلى حدود نهر الأوّلي (شمال صيدا). كان يترائ لبيغن أنّ الله اختاره ليحرّر "أرض اسرائيل" من الغزاة العرب وكلّفه بالحفاظ على اليهود فيها، ولكن بعد فشله في تحقيق ذلك، زاد حالته النفسية سوءاً.
ومع حلول أيلول/سبتمبر 1983 وعندما قارب عدد قتلى جيشه في لبنان 1000 جنديّ، فقدَ بيغن اتّزانه ودخل في حالة اكتئابٍ حادّة جعلته يعتكف داخل بيته لمدة أسبوعٍ كاملٍ توقّف خلاله عن حضور أيّ اجتماعٍ وعن لقاء أيّ مسؤولٍ في الحكومة أو الجيش.
الشخص الوحيد الذي كان بيغن يراه في تلك الفترة هو سكرتيره الشخصي دان ميريدور. تفاقمت حالة بيغن النفسية في عزلته فامتنع عن الحِلاقة وحتى عن تناول الطعام! وانتهت فترة العزلة تلك حينما أوفد بيغن سكرتيره إلى الرئيس الإسرائيلي (حاييم هيرتسوغ) حاملاً رسالةً دوّن فيها بضع كلمات " أقدّم لكم استقالتي من رئاسة الحكومة".
لم يذكر بيغن أسباب الاستقالة ولم يشرح شيئاً. فهِم هيرتسوغ كلّ شيء ولم يطلب إيضاحات. الشيء الوحيد الذي فعله بيغن في أيامه الأخيرة كسياسيٍّ فاعل، كان اختيار خليفته. نظر بيغن حوله ليجد من يأتمنه على "إسرائيل" من بعده، فلم يجد أكثر تطرّفاً وأشدّ تزمّتاً من اسحق شامير، فسلّمه "الأمانة" وعهد إليه: لا تسلّم "أرض إسرائيل" للعرب!