العزلة والخلوة في عصرنا
لا بد إذن أن يقودنا الضجيج إلى التأمل، لنحيا معا حياةً كريمةً، نتحكّم فيما يفرّقنا ونعترف به بطريقةٍ متبادلة ونشتغل أكثر على ما يجمعنا، دون أن ننسى بأننا جزءٌ من الطبيعة.
عندما بدأت الحكومات تفرض الحجر الصحي على مواطنيها كان الشعور بأن الإنسان في المجتمعات "الديمقراطية" مضطرٌّ إلى لتخلي عن جزءٍ من حريته مقابل الحد من انتشار العدوى.
ولم يكن هذا التخلي طواعيّةً وبرضىً، بل على مضضٍ، وهناك من لم يتقبّله وشارك في مظاهراتٍ عارمةٍ ضد هذا الحجر، لأنه يمسّ بحق من الحقوق الأساسية: "حرية التنقّل". اعتقد المرء بأن استغلال "حق التعبير" قد يؤدي إلى تغيير المسؤولين قرارهم بفرض الحجر، لكن ذلك لم يحدث، لأن أسباب الحجر ودواعيه كانت أقوى، أذعنت لها الغالبية العظمى من الشعوب التي التزمت بالإجراءات الوقائية. عُومل الفيروس كحالة حربٍ حقيقيّةٍ من واجب الحكومات حماية مواطنيها ضذ مخاطره بكل السبل المتاحة، بما فيها الحجر.
من الأمور المهمة التي جعلت البعض لا يتقبّل البتة هذا الحجر الصحي هو إرجاع البشر لا شعورياً إلى حالةٍ بدائيّةٍ لم تتحرّر منها الشعوب إلا بعد مرور قرونٍ طويلة من تاريخ تطوّرهم المجتمعي والقانوني. يتعلق الأمر بفرض "الوصاية" واعتبار الناس قاصرون لا يَعُون مصالحهم ومصالح وطنهم.
ومما تعنيه الوصاية هو العزل، سواء تمّ تطبيقها على أفرادٍ أو مجموعة أفرادٍ، وهي بهذلك تشكّل نوعاً من أنواع السجن الجماعي. وهنا بالضبط بيت القصيد: ناضل الإنسان الغربي منذ قرون لتحقيق حريته وضمان حقوقٍ كثيرة، لا تزال موضع حلمٍ للكثير من شعوب الأرض. وفي عزّ "انتصار" جائحةٍ عالميّة على "القدرات الهائلة" للطبّ المعاصر، شعر بأن المرء بمحاولة سلبه حريته من جديد.
يتجلى خوف الإنسان الغربي المعاصر من فقدان حريته في ظروف هذه الجائحة من خلال الإشاعات التي رافقت انتشارها وارتبطت بتطوّر الوصول إلى لقاحاتٍ مختلفة لها، في عدد من البلدان الصناعية. وبما أن الإشاعة تتأسّس من بين ما تتأسّس عليه، على أخبارٍ ومعلوماتٍ غير متيقَّنٍ منها، لا تكون صحيحة ولا خاطئة - وهي تشترك بهذا مع أية فرضيّة في أي مجال كان، مع فرقٍ بسيطٍ يتمثّل في المصدر الموثوق الذي روّج لهذه الفرضية- فإن سرعة تفشّيها وانتشارها تكون كبيرةً للغاية.
وفي موضوع الجائحة الحالية، ارتبطت الكثير من الإشاعات بمفهوم استغلالها من أجل "تقييد حرية" الناس، لا بل قال البعض أنها "صُنعت" خصيصاً لهذا الغرض. أكثر من هذا يُرَوَّج بأن التلقيح "المنتظر" ما هو في الحقيقة إلا وسيلةٌ لشحن جسم الإنسان بأجسام ستجعل منه إنساناً طيّعاً، مُقادا، مفعولاً فيه إلخ.
يبرز مفهوم استغلال التكنولوجيا لإرجاع الإنسان إلى مربّع العبودية واستغلاله جسدياً ونفسيّاً كما اتُّفق، دون إتاحة الفرصة له للدفاع عن نفسه واسترجاع حريته الشخصية. والحديث عن "زرع شرائح إلكترونية" تحت جلد الإنسان لتسهيل مراقبته والتحكّم به، يدخل أيضاً في هذا الإطار، وكأننا لن نستمرّ اليوم دون هذه الشرائح في محيطنا الجغرافيٍّ والثقافيٍّ والاقتصاديٍّ المُرَاقَب على الدوام بكل أنواع الكاميرات الممكنة، المركّبة في كل الأجهزة الإلكترونية التي نستعملها (تلفزة، جوال، سيارة إلخ).
تَعَوَّدَ الإنسان الغربي على الضجيج والإزدحام وصخب المدن الكبرى، إلى درجة أن هذا الضجيج أصبح ملازماً للحياة الإجتماعية في العمارات السكنيّة الشاهقة والحفلات الموسيقية الشعبية شتاءً وصيفاً والأنشطة الرياضية المختلفة (وبالخصوص كرة القدم) وأنفقة وسائل النقل العمومية. ويأتي الحجر الصحي مهدّداً "حضارة الضجيج"، فارضاً الهدوء في الشوارع والإحتكاك الفيزيقي بالآخرين (أي ما يُسمى حمام الجماهير). ويُرفَضُ الحجر أو لا يُطاق لهذا السبب أيضاً، لأن الهدوء يُرجعنا إلى حياتنا البدائيّة الأولى، ويُثير لدينا مشاعر الخوف والهلع والقلق. فالحرية يلازمها الضجيج والضجيج. حيثما تكون الحرية، يكون الضجيج، لأن "صمت القصور" يُعتبر رمزاً للإضطهاد وكمّ الأفواه.
مقابل الشعور بالعزلة جرّاء فرض الحجر وتقييد الحريات الفردية والرجوع إلى الخوف والقلق، كان هذا الحجر نعمةً بالنسبة للكثير من المبدعين في مختلف الميادين. فالضجيج، العدو اللّدود للتأمل الإبداعي منذ غابر الأزمان، ترك المكان لهدوءٍ ممتعٍ، سمح للعمليات العقلية والإبداعية في التعبير عن نفسها في أريحة ودون قيود زمنية. وإذا كان الفن التشكيلي والشعر من بين ميادين الإبداع التي تمظهر فيها هذا الأمر في الشهور القليلة الماضية، فإن كُتَّاب سيناريوهات الأفلام والمسرحيين والموسيقيين لم يركنوا إلى الهدوء، بل اشتغلوا وأنتجوا أشياء جميلةً جداً.
أما المفكرون والفلاسفة والمنظّرون الآخرون في العلوم الإنسانية عامةً، فإنّ "صدمة" الجائحة لم تسمح للكثير منهم إلى حدّ الساعة إلا بنصوصٍ قصيرةٍ، لم ترقَ بعد إلى مستوى التأمل الحقيقي بشأن وضع الإنسان الحالي الهشّ، على ضوء النتائج العامة التي خلّفتها هذه الجائحة. وهذا أمرٌ عاديٌّ، لأن التأمل الفكري والفلسفي الحقيقيين يكونان بَعْدِيَان وليس قبليان. هناك بالتأكيد أزمةٌ وجوديّةٌ عبّرت عنها هذه الجائحة، منها ما اتضح بعد سنةٍ من بداية انتشارها، ومنها ما هو مُضمرٌ إلى حين.
بين عزلة الجماهير الشعبية وخلوة النُّخب، أتاحت الجائحة الحالية فرصة إعادة النّظر في ظروف الوجود الإنساني برمّته وشروطه، بغض النظر عن كل نظريات المؤامرة التي رافقت انتشار الجائحة. لربما انتبه الإنسان المعاصر إلى أن جوهر الحياة لا يكمن في التلوّث الثقافي والسياسي والإجتماعي والأيديولوجي والديني فحسب، وهو الذي يُعْتبر الجائحة الحقيقية التي تجتاح الإنسانية، إنما يكمن في رجوع الإنسان إلى ذاته وإعادة طرح أسئلةٍ جوهريّةٍ عن المسافة الزمنيّة التي تقع بين ولادته ومماته، وتأمّل كنهها، واستخراج المغزى منها؛ أي أن أهم سؤال يُطرح على الجنس البشري حالياً ليس هو، في اعتقادنا، من أين أتينا وإلى أين نحن ذاهبون؟ لأنها أمورٌ غيبيّة، افتراضية، بل التركيز على العيش ههنا، وجعل هذا العيش ممكناً لكافة البشرية حيثما كانت دون أن تشكّل حكراً لفئةٍ معيّنةٍ منها.
لا بد إذن أن يقودنا الضجيج إلى التأمل، لنحيا معا حياةً كريمةً، نتحكّم فيما يفرّقنا ونعترف به بطريقةٍ متبادلة ونشتغل أكثر على ما يجمعنا، دون أن ننسى بأننا جزءٌ من الطبيعة، ولسنا أسياداً عليها، على الرغم من أننا نعمل منذ ظهورنا على محاولة إخضاعها والتحكم فيها واستنزافها، حتى نقضيَ على كل مقوّمات الحياة البشرية فيها. فالتأمل الحقيقي إذن هو الذي يُصغي بتأنٍّ إللى مصادر الضجيج ويحاول فهمها وتأويلها لما هو في صالح الحياة البشرية، آخذةً بعين الإعتبار حدود الذكاء والعلم والحيل الإنسانية، لأن الإنسان مهما تطوّر، فلن يتعدّى حدود قانونه الطبيعي كإنسانٍ عاقل. وبهذا يكون العقل سيّد التأمل.