هدف استراتيجي للصين الصاعدة في المرمى الأميركي المتراجع
إن اتفاق "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة"، الذي ضمّ إلى جانب الصين كل من اليابان، وأوستراليا، وكوريا الجنوبية، ودول أخرى يُعتبر أكبر اتفاقٍ تجاريٍ في العالم.
مرّ خبر توقيع الاتفاقية الإقتصادية بين 15 دولة في الشرق الأقصى في آسيا مرور الكرام، رغم أهميته، وأهمية أبعاده. وفي الحدث أن 15 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ وقّعت في 15 تشرين الثاني/ أكتوبر 2020 أهمّ اتفاق للتجارة الحرّة على مستوى العالم، في خطوةٍ ضخمةٍ تعزّز الحضور الصيني في فضائها.
يضمّ الاتفاق الذي وُقّع تحت عنوان "الشراكة الإقتصادية الإقليمية الشاملة" 10 دول في جنوبي شرقي آسيا إلى جانب الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، ونيوزيلندا، وأستراليا.
وتمّ توقيع الاتفاق الذي عُرض أوّل مرةٍ عام 2012، في ختام قمّةٍ عُقدت في أواسط تشرين الثاني\نوفمبر 2020 لقادة دول جنوبي شرقي آسيا السّاعين إلى إنعاش اقتصاداتهم المتضررة جراء "كوفيد-19".
معظم هذه الدول انضوت سابقاً في المبادرة التي أطلقتها أوستراليا عام 1989، وتبنّتها الولايات المتحدة الأميركية، تحت مسمّى "الشراكة عبر المحيط الهادىء" (آبك) والتي راهن الأميركيون عليها لإنقاذ اقتصادهم من أزماته، في ظلّ التراجع العام لنظامهم الليبرالي، وما واجهه من أزماتٍ، وتراجع نموٍّ، وفي ظل شبه انعدام النموّ لأوروبا، الحليفة الأولى للولايات المتحدة الأميركية.
أوباما وصف قمّة "آبك" 2011 "منطقة آسيا والمحيط الهادئ" بأنها محرّكٌ للنموّ، معلناً أن تسع دولٍ في منطقة المحيط الهادئ اتفقت على الخطوط العريضة لاتفاقيةٍ جديدةٍ لإنشاء منطقةٍ حرّةٍ للتجارة، وفي قمّة "آبك" 2015 التي عُقدت في هانوي-عاصمة فييتنام- أعلن أوباما أنها أفضل من الشراكة الأوروبية لأن النموّ الإقتصادي الأوروبي معدومٌ، بحسب أوباما.
مع العلم أن "آبك" ضمّت 21 دولةً من بينها الصين وروسيا اللّتين لم تنضمّا إلى اتفاقية التجارة الحرة التي رغب أوباما بها.
أنشئت "آبك" في مسعىً لتنشيط الاقتصاد العالمي، ووجدت الولايات المتحدة فيها فرصةً لتلافي تداعيات الأزمات كالتي واجهتها عام 2008، بعد أن بلغ النمو الاقتصادي العالمي حدّاّ خطيراً من التراجع، وكانت الفكرة أن تضمّ المبادرة كل الدول الواقعة على المحيط الهادىء أكانت في غرب القارة الأميركية، أم في شرق آسيا، حيث توجد اقتصاداتٌ متينةٌ كالصين واليابان، ودول عديدة يناهز عددها ثلث عدد سكان الكرة الأرضية تقريباً.
تألّفت "آبك" بدايةً من 12 دولة هي أوستراليا، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة الأميركية، وكندا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وبروناي، والفيليبين، وأندونيسيا، وماليزيا، وسنغفورة، وتايلاند، وفي 1991 انضمت إليها الصين، وهونغ كونغ، وتايوان، وفي 1993 انضمت المكسيك وغينيا الجديدة، ثم تشيلي 1994، فروسيا وفييتنام وبيرو 1998.
اعتمدت الولايات المتحدة على المبادرة، وأنشأت فيها "مشروع إقامة منطقةٍ للتبادل الحر" الذي ضمّ نصف أعضاءها فقط، وكان من أهداف المشروع قيام اقتصادٍ إقليميٍّ من دون عقبات، وفق تعبير أوباما، ومن مرتكزاته "تحرير الاقتصاد العالمي" الذي وجدت فيه الصين وروسيا أنه "غير متلائمٍ مع واقع الدول النامية"، فلم تنضمّا إليه وتلاقتا بذلك مع الرغبة الأميركية في استبعادهما عن المشروع.
في قمّة "آبك" 2016 التي استضافتها الصين، دعا أوباما الصين إلى تحرير أسواقها، وسعر صرف عملتها، مؤكداً أنه من مصلحة الولايات المتحدة أن تزدهر الصين، ملمّحاً إلى ضرورة احترام الصين لـ"حقوق الانسان"، و"حرية الصحافة".
في قمة "آبك" 2017 التي عُقدت في فييتنام، والتي حضرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، رأى أن "اتفاقات التجارة الحرة غير مجدية للجانب الأميركي"، مؤكداً أن "الولايات المتحدة لن توقّعَ بعد اليوم "اتفاقاتٍ كبرى تجبرها على التخلّي عن سيادتها"، ناسفاً بذلك كل مساعي سلفه الديمقراطي باراك أوباما.
بنتيجة موقف ترامب، توصّلت 11 دولة في القمة إلى وضع إطارٍ لاتفاقٍ جديدٍ للتبادل الحرّ بينها بدون الولايات المتحدة، وكان من ثمرتها أن وقّعت 15 دولة الاتفاق التجاري الآسيوي تحت مسمّى "الشراكة الإقتصادية الإقليمية الشاملة"، ويرى مراقبون أن هذا الاتفاق الذي تعود فكرته إلى 2012 يشكّل ردّاً صينيّاً على المبادرة الأميركية التي تمّ التخلّي عنها الآن.
إن اتفاق "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة"، الذي ضمّ إلى جانب الصين كل من اليابان، وأوستراليا، وكوريا الجنوبية، ولاوس، ونيوزلندا، وفييتنام، وتايلاند، والفليبين، وكمبوديا، وميانمار، وماليزيا، وسنغافورة، وبروناي، وأندونيسيا، يُعتبر أكبر اتفاقٍ تجاريٍ في العالم لجهة إجمالي الناتج الداخلي ولمجموع الدول المنضمّة إليه، ويغطي 2.2 مليار شخصاً و29-30% من الناتج الإقتصادي العالمي.
بمغادرة الولايات المتحدة الأميركية "آبك"، وتخلّيها عن "مشروع إقامة منطقة للتبادل الحرّ" ضمن "آبك" سابقاً، واستثنائها من "الشراكة الإقتصادية الإقليمية الشاملة" راهناً، يكون قد سقط من يد الولايات المتحدة آخر موقعٍ على الكرة الأرضية وجد فيه رئيسها أوباما ذات يومٍ إنقاذاً لبلاده، وبدلاً من ذلك كسبتها الصين، وبات شرق آسيا الأقصى سوقاً مشتركةً للدول المشتركة فيه، وخصوصاً الصين التي تستكمل به مشروع الحريري والحزام، مسجّلةً هدفاً استراتيجياً في مرمى الولايات المتحدة الأميركية.
وبإقفال شرق آسيا أمامها، لم يتبقَّ للولايات المتحدة الأميركية مروحة خيارات نهبٍ جديدةٍ وواسعة. الغير يصعد ويتقدّم، وهي تتراجع، والمخيف أن تلجأ إلى لعبة انتحارٍ جماعيّةٍ وفق الرواية التوراتية- الشمشونية "عليّ وعلى أعدائي يا رب".. فهل تجرؤ؟