أن نعيش هو أن نتعلم كيف نموت
"يمسّ" الفيروس فينا يومياً فرحة الوجود، ويقتلها قبل أن نموت واقعياً، ونقلّص وجودنا إلى طقوس الأكل والشرب.
رافقتنا جائحة كورونا لما يقارب السنة، أيقظت مضاجعنا وأبعدتنا عن زملائنا في العمل وأفراد عائلتنا وأصابتنا بالأرق، وفتحت شهيّتنا على تلقُّفِ الأخبار الصحيحة عن الوباء والإشاعات. قادتنا إلى الصيدليات والعشّابة، وكثرت النصائح لتناول مواد "تقضي" على الفيروس. ويدخل كل هذا في خانةٍ وحيدةٍ تلازم الإنسان منذ بداية وعيه بأنه كائن وُلِد أو زُجَّ به في هذه الحياة التعسة/الجميلة دون استشارته، لينتهي بالموت.
"يمسّ" الفيروس فينا يومياً فرحة الوجود، ويقتلها قبل أن نموت واقعياً، ونقلّص وجودنا إلى طقوس الأكل والشرب، أي إرجاعنا إلى وضعنا الحيواني الحقيقي والمسّ بما "يُمَيِّزُنا" عن الحيوان: "التفكير".
و"المفكّر" هو الإنسان الذي يفضّل عن وعيٍ أو دون وعيٍ "التباعد الإجتماعي" والاستمتاع ولو لمدةٍ باختلائه بنفسه، كما فعل المفكّرون منذ أن فُرض على سقراط العزلة في زنزانته ليقرّر مصيره الأخير. إذا كان الموت قبل كورونا هو موت الآخرين، فإنه أصبح مع الفيروس موتنا، لأننا تيقنّا بأنه حاضرٌ في كل خلايانا وقطرات دمنا وحركات تنفسّنا.
أن نعيش هو أن نتعلّم كيف نموت. ليس في هذه العبارة أية مغالطة، ذلك إن "من تعلّم كيف يموت، تعلَّم كيف لا يكون عبداً" (مونتين Montaigne). بمعنى أن العبودية الحقيقية لا تتمظهر فقط في وضع السلاسل والقيود في معصم الناس وأرجلهم، مهما كان نوع السلاسل (اقتصادية، نفسية، سياسية إلخ)، بل تتجلّى معالمُها في زنزانة الخوف من الموت بحدّ ذاته.
إنه الرعب من نهائيّتنا الفيزيقية، واستعدادنا لكبت هذا الرعب بكل الوسائل. في مقابل العبودية الوجودية التي يفرضها علينا التفكير في الموت، هناك الحرية. وهذه الأخيرة هي أكثر ما تَقبلُ حتمية موتنا وفنائنا، بل هي في العمق في زمن هذه الجائحة، وليمة الترحيب بالموت.
تحمل فكرةُ الموت معها الشعور بالخوف، وهذا الشعور، كما نَظَّر أرسطو، هو تهديدٌ فعليٌّ، واقعي، يمكن أن يُشاهَدَ ويُلمس. لكن ما انتشر في زمن هذه الجائحة هو القلق. يصبح كل شيءٍ وكل شخصٍ خطراً محتملاً، بل إن هذا القلق عَمَّ ذواتنا، فأصبحنا نشك في أنفسنا، ونقلق لأتفه الأمور. وما يقلقنا أكثر هو أننا نعي بما فيه الكفاية بأن هذا الفيروس واقعيٌّ جداً وخفيٌّ جداً. بمعنى أنه حاضرٌ/غائبٌ في كل مكان.
ليس الخوف من الموت هو الذي يقتل، بل القلق الذي يسبّبه هذا الخوف، هو الذي يقضم وجودنا الفيزيقي وماهيّتنا الوجودية يومياً. وكعادة الإنسان منذ أن وُجد، فإنه يحاول قدر المستطاع "تجاوز" قلقه بالخلق والإبداع في أحلك لحظات القلق التي تنتابه. ولا ينطبق هذا على شوبنهاور ونيتشه وهيدجر فقط، بل على كل إنسانٍ، مهما كان. فكلما كان الإنسان في قبضة القلق، المسبّب للخوف من الموت، كلما غاص في بئر ذاته، باحثاً عن قطرة ماء يروي بها عطشه في صحراء الحياة القاحلة، التي لم تَعِد بشيء آخر، باستثناء النهاية المحتومة: الموت.
بما أن الموت هو، طبقاً لهيدجر: " فظاظةٌ اجتماعيةٌ"، تجد أصلها في الرغبة الدفينة للإنسان في البقاء أبدياً، لأن هويته تأسّست على "المَبْتُور": لا يعرفُ من أين أتى ولا يعرف إلى أين هو ذاهبٌ؛ فإن هذه الرغبة في الخلود هي مصدر شقاء الإنسان.
ينبع القلق إذن من "وهم الخلود"، أو "حلم الخلود"، ليصبح خوفاً حقيقياً من الموت، الذي ترجمه فرويد بـ"غريزة حب البقاء". من هنا، يكون الوجود الإنساني هو الأضعف على الإطلاق في الطبيعة، فبعطسةٍ واحدةٍ يمكن للمرء أن يصبح جسدياً عدماً.
لكن في هذا الضعف وهذا القلق وهذا الخوف، تكمن قوتنا أيضاً. وقوتنا الوحيدة هي أننا نستطيع التفكير والإبداع وأن نجد حِيَلاً للإستمرار في الحياة. وهذا أمرٌ لا يستطيع منعه لا الفيروس ولا الوحوش التي كانت تهاجم أجدادنا ولا الروبوتات التي تفوقنا قوّةً ولا ظواهر الطبيعة التي تفوق تصوّراتنا. فهشاشتنا قوةٌ، إن أحسنّا استعمالها وتفعيلها بعقلٍ وروحٍ وجسدٍ، وبإيمانٍ قويٍّ بأن الموت هو حدثٌ طبيعيٌّ آتٍ لا محالة، سنعيش لنتعلم كيف نموت. وعندما نموت، فإن الكون لن يتوقّف عن الوجود، وهذا ما يقلقنا أكثر، لأننا نغادر قاعة الحفل مرغَمين.