هل بات انقسام حركة "النهضة" التونسية إلى "نهضتين" وشيكاً؟
رياح عاتية تهبّ الآن على مبنى "منبليزير" وقد يكون للعاصفة من القوة ما يقسم ظهر هذه الحركة لنشهد في المستقبل القريب وجود حزبين من نفس العائلة: حركة "النهضة" التقليدية وحركة "النهضة" العصرية.
إن حجم الصدع الذي أصاب بنية حزب حركة "النهضة" التونسي على الساحة الوطنية اليوم لم يعد خافياً على أحد. فالخلافات الداخلية قد شقّت صفوف الحزب السياسي الأعرق في تونس وطفت التباينات العميقة في الأيام الأخيرة وتحوّلت إلى عناوين تداولتها وسائل الإعلام والصحافة.
أمام احتدام هذه الخلافات التي وإن كانت مألوفةً وطبيعيةً في حياة الأحزاب، إلاّ أنها بالنسبة لحركة "النهضة"، تُعدّ غيرَ مألوفةٍ نظراً للتكتّم الذي يُميّز هذه الحركة في ما يخص أمورها الحزبية وشأنها الداخلي.
إنّ هذه الخلافات ليست وليدة اليوم -كونها تعود إلى ثلاث سنوات على الاقل- لقد علت أصواتٌ من داخل القيادات التاريخية والعريقة لحركة "النهضة" تطالب بالتغيير وتصويب البوصلة، على ضوء ما يشهده العالم اليوم من تطوّرات.
دعت هذه الأصوات إلى الحثّ على مواكبة ما يعيشه المجتمع التونسي من تقدّمٍ، هذا المجتمع الرافض بطبعه لكل حركةٍ مسيئةٍ تجذبه إلى الوراء.
ومن أبرز الداعين الى انتهاج هذا التوجّه القيادي عبد الحميد الجلاصي، وهو من القيادات التاريخية لحركة "النهضة". لقد حاول الجلاصي قدر جهده الدفاع عن آرائه التي اعتُبرت "تقدميّةً" فلم تجد قبولاً من بقية زملائه. وحتى من تفاعل إيجاباً حول مضامين هذه الآراء، لم يجد الشجاعة لإظهار موقفه في العلن.
يبني عبد الحميد الجلاصي طروحاته على ضرورة خروج "النهضة" من "الجلباب الديني العقائدي" وتخليصها من حالة التكلّس التي تُعيق نشاطها، ومواكبة روح العصر، وتجنّب الإقصاء، والانفتاح على بقية العائلات السياسية؛ وأهمّ ما يدعو إليه هو عدم مواصلة راشد الغنوشي مهامه في رئاسة الحركة مرة أخرى حتى لا تجد "النهضة" نفسها في موقفٍ نقيضٍ، فتنزلق في أتون ما حصل في عهد الزعيم بورقيبة عندما وافق على مبدأ الرئاسة مدى الحياة وكانت نهايته وفق ما يعرف الجميع. تقدّم بورقيبة في السن ولم يعد قادراً على تسيير شؤون البلاد مما أضرّ به وأضرّ بتاريخه.
إلاّ أن دعوة عبد الحميد الجلاصي بقيت مجرّد صرخةٍ في وادٍ غير ذي زرعٍ، ولم تجد التجاوب المنشود. ومع مرور الأيام، بدأت قيادات من داخل حركة "النهضة" تقتنع بالمسار الخاطئ للحركة في العديد من خياراتها وباتت تتقبّل تفرّد الشيخ راشد الغنوشي، بالسلطة وتحكّمه بخيارات الحزب؛ مما أحدث صدعاً داخل هذه الحركة، ولم يفلح الغنوشي في رأب هذا الصّدع الذي لانشغاله بضمان موقع رئاسته في البرلمان، إلى أن جاءت رسالة المائة قيادي التي تطالب الغنوشي بعدم الترشّح من جديد لرئاسة الحركة واحترام قانونها الداخلي. هنا، تفجّرت أزمة كبيرة داخل مبنى "منبليزير" المعروف بغلق الأبواب حتى لا تظهر للعلن ما بداخله من خلافات.
ولما كان جواب الغنوشي على الرسالة الأولى مستهزئاً بالموقّعين على الرسالة -وهم الشخصيات والقيادات التاريخية للحركة- أعقب الرسالة الأولى رسالةً ثانية أصرّت فيها القيادات العريقة على المطالبة مجدداً بعدم ترشّح الغنوشي. وخرجت مجموعة من قادة "النهضة" للتعبير عن آرائهم في وسائل الإعلام والمنابر التلفزية مثل عبد اللطيف المكي، ومحمد بن سالم، ورئيس مكتب الغنوشي الأسبق ولطفي زيتون، كان 3 منهم وزراء باسم حركة النهضة يدافعون عن شرعية مطلبهم.
ووصل الأمر بلطفي زيتون، أحد أقرب المقرّبين من الغنوشي، إلى تقديم استقالته من كامل هياكل الحركة واعتبر أنه لم يعد قادراً على العمل صلب حركة "النهضة"، ما لم تحاول الحركة تغيير أسلوب عملها والتفتح على المتطلبات الجديدة للمجتمع والتعامل مع كل العائلات السياسية.
في هذا المضمار، برز شقٌّ جديدٌ من أبرز أعضاء الحزب؛ إنه عبد الكريم الهاروني، رئيس مجلس شورى الحركة، ورفيق عبد السلام بوشلاكة، صهر الغنوشي، ومعهم مجموعة من القيادات الأخرى التي ترى في بقاء الغنوشي، الزعيم التاريخي، ضمانةً لاستمرارية الحركة. وقد ذهب هؤلاء إلى حدّ القبول بطلبات الجماعة المنادية بعدم التجديد للغنوشي واستنباط موقع قيادي جديد على القياس وهو منصب الزعيم، يُنهي به الغنوشي حياته السياسية.
وهو أمر رفضته الجماعة ورأت في طيّاته تخريجة لا تليق بمكانة واعتبار راشد الغنوشي الذي يحاول من موقعه كسب الوقت لأن طموحه يقوده إلى رئاسة الجمهورية وانتخابات 2024.
رياح عاتية تهبّ الآن على مبنى "منبليزير" وقد يكون للعاصفة من القوة ما يقسم ظهر هذه الحركة لنشهد في المستقبل القريب وجود حزبين من نفس العائلة: حركة "النهضة" التقليدية وحركة "النهضة" العصرية بقيادات رفضت البقاء داخل جلباب الغنوشي.