آخر كلمات "الطريد": ليس لأميركا صديق!

اتّخذ الشّاه مصر مستقرّاً دائماً، حيث بقى فيها إلى أن وافته المنيّة بعد ثلاثة أشهر، ولسان حاله يقول: "ليس لأميركا صديق".

  • الشاه والرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر
    الشاه والرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر

المشهد الأوّل، طهران 31-12-1977، حفل عشاء يجمع إمبراطور إيران والرئيس الأميركي جيمي كارتر: "بفضل قيادتكم العظيمة، يا جلالة الإمبراطور، أصبحت إيران واحة استقرار في وسط منطقة من أكثر المناطق اضطراباً في العالم". وأضاف جيمي كارتر: "أقدّم أصدق التحية والتقدير، لكم يا صاحب الجلالة، ولشعبكم الذي منحكم الاحترام والحب". انتشى الشّاه على وقع هذه الكلمات وشرب مع ضيفه نخب تحالفهما وزها. وكيف لا يزهو وهو بحضرة أقوى رئيسٍ في العالم، يولي اهتماماً خاصاً به ويأتي إليه ليقضيَ ليلة رأس السنة برفقته في آخر يوم من 1977.

المشهد الثاني، واشنطن في صيف 1979، مكالمةٌ هاتفية بين الرئيس الأميركي كارتر وهنري كيسينجر: "تبّاً للشاه" قالها كارتر بالعاميّة البذيئة، رداً على إلحاح كيسنجر الشديد بضرورة السماح للشّاه بدخول أميركا. "لن أسمح له بدخول أميركا ما دام هناك مكان آخر يمكن أن يؤويه"، ثم أقفل الخط. خيبة أمل قاسية شعر بها كيسنجر بسبب موقف كارتر المتعنّت، ولكنه قرّر ألاّ يستسلم وأن يواصل العمل لإنقاذ الشّاه.

ما بين المشهدين، تُختصر قصّة الإمبراطور. ما بين "قيادتكم العظيمة" و "تبّاً للشّاه" أقل من سنة ونصف، فصلت ما بين مكانة "ملك الملوك" (الترجمة الحرفية للقب شاهنشاه، محمد رضا بهلوي، لقبٌ أطلقه على نفسه) ووضعية الهارب الذليل الذي يجوب أنحاء الأرض بحثاً عن ملجأ يؤويه. 

في أواخر 1977 كانت حالة العنجهية والصّلف التي ميّزت الشاه تجاه شعبه (جرت العادة أن يقبّل الإيرانيون يده وحذاءه أيضاً) قد بلغت أوجها، إلى حدٍّ إصابته بالعمى السياسي وجعله يعتقد أن لا قوة في الأرض قادرة أن تهزّ نظامه  (كان الشاه يحكم إيران منذ 1941). والمعارضة المتصاعدة التي تشهدها إيران في السنوات الأخيرة إنما هي، بنظر الشّاه، زوبعة في فنجان وسوف يتمكّن من إخمادها اعتماداً على قوة مخابراته (كان جهاز "السافاك" يتميّز بشراسةِ وقسوة قلّ نظيرهما) وولاء جنرالاته (الجيش الإمبراطوري الإيراني كان هو الأكبر في المنطقة والأكثر تسليحاً).

وأُضيف على ذلك، دعمٌ لا محدودٌ من أميركا و عونٌ من "إسرائيل"، فسيكون انتصاره على أعدائه في الداخل أمراً محتوماً. لم ينسَ الشّاه أن أميركا قد أعادته إلى عرشه سنة 1953 عندما نجح الوطنيّون الإيرانيون بإزاحته (كان الجنرال الأميركي كيرمت روزفيلت قد هندس انقلاباً ناجحاً حينها، أطاح بحكم محمد مصدّق وأعاد الشاه إلى الحكم)، وبالتالي اندفع إلى أقصى حدّ، فأطلق يد أميركا في إيران ومكّنها من السيطرة على كل مفاصل البلد – النفط والجيش والاقتصاد والإعلام - معتقداً أن ذلك سيمنحه شبكة أمان تجاه شعبه إن حصل وتمرّد مرة أخرى.

وجيمي كارتر نفسه كان قد أُصيب بالعمى السياسي أيضاً! إذ لا يمكن تفسير كلماته تلك عن عظمة الشّاه واستقرار إيران بصورة مغايرة. هل من المعقول أن الرئيس الأميركي كان بعيداً عن الواقع إلى هذا الحدّ؟! هل كانت تقارير المخابرات والأمن القومي هزيلةً وضعيفةً إلى حدّ عجزها عن التنبّؤ بحجم واتّساع المعارضة الشعبية ضد نظام الشّاه وسقوطه الوشيك؟! ثلاثة عشر شهراً فقط فصلت ما بين كلمات كارتر ومدحه الأسطوري للشّاه وبين فرار هذا الأخير من إيران مذعوراً أمام بأس شعبه الثائر. ظنّ كارتر أن الشاه قادرٌ على البقاء والانتصار وأنه الفرس الرابح في إيران ذات القيمة الاستراتيجية الكبيرة في التخطيط الأميركي للمنطقة، وبالتالي لا بأس في دعم الشّاه إلى أقصى حدود.

كان عام 1978، عام الفصل. اشتدت المعارضة ضد الشّاه واتّسعت لتشمل كل أنحاء إيران. وبدت مظاهر الثورة الشعبية تتجلّى على شكل مظاهرات و إضرابات واغلاقات زادت حتى بدأت بتعطيل قطاعات واسعة من البلاد. وشيئاً فشيئاً، بدأت مفاصل الحكومة وأجهزتها تُصاب بالشلل والفشل لكثرة المنضمّين إلى الثورة والمستجيبين لنداءات قائدها القادمة من بعيد عبر أجهزة الكاسيت التي كانت توصل صوت الإمام الخميني إلى كل مكان وهو يصرخ داعياً إلى العصيان وعدم الوقوع في شرك الخديعة، واعداً بالنصر القريب على الشّاه ونظامه.

استمات الشّاه في الدفاع عن مقامه وأصدر أوامره لجهاز السافاك بالضرب بيد من حديد. وبالفعل، بدأت قوى الأمن الشاهنشاهيّة إطلاق الرصاص بغاية القتل المتعمّد، ولم تعد الاعتقالات تجدي نفعاً؛ بل كان الدم المسفوح يزيد من تصميم الثوار على المضيّ في الثورة حتى النهاية. بدأت القبضة الأمنية تتراخى وتضعف، وصار الجيش يعاني من خطر الانهيار مع انضمام أعداد متزايدة من عناصره إلى صفوف الثوار. استولت جماهير الثوار على ثكنات عسكرية ومنشآت حيوية في العاصمة طهران وبدأت الأمور تخرج عن السيطرة ولم يعد الجنرالات قادرين على ضبط البلد ولا حتى على ضمان أمن الشّاه نفسه.  

كان الشّاه يراقب ما يجري، مذهولاً بمشهد المعارضة الشعبية الضخمة ضده وبالسرعة التي انهارت فيها نظامه وأجهزته الأمنية. وأخيراً، فهم الشّاه أنه لا أمل له بالبقاء في إيران. استسلم، وقرّر أن يغادر. ولكنه كان يمنّي نفسه بأن أميركا سوف تنقذه وسوف تعيده - تماماً كما فعلت سنة 1953، وأنه لا يمكن للأميركيين أن يتخلوا عنه، وبدأ الاستعداد للّجوء الى الحامي والضامن والكفيل، إلى أميركا.

وبدأت رحلة الشّاه الأخيرة. أعلن التلفزيون الرسمي أن جلالة الإمبراطور غادر البلاد في "إجازة". وكانت مراسم المغادرة البروتوكولية التي تليق بالشاهنشاه، أقرب منها إلى الهرب. اقتصر الوداع الأخير على مجموعة صغيرة جداً من المقرّبين والحاشية وخلا من مظاهر البهرجة المعتادة. كانت محطتّه الأولى في رحلة المنفى مصر، حيث صديقه السادات الذي كوّن معه حلفاً أميركيّاً، والذي ما لبث أن هوى في السنوات التي تلت انقلابه على عدو الشاه في مصر عبدالناصر. استقبله السادات في المطار وبالغ في مظاهر الحفاوة بالامبراطور الهارب (هل كان السادات يستشعر مصيرا مشابهاً؟).

أمضى الشّاه 6 أيام في جزيرة في نهر النيل محاطاً بكرم السادات ورعايته. بعدها، انطلق إلى محطته الثانية في رحلة المنفى، حيث تلقّى دعوة من ملك المغرب الحسن الثاني (عدا عن موضوع "الصداقة" بين الملك والإمبراطور، كان الحسن يعرف أن ثروة الشاه الشخصية تناهز الملياري دولار، وكان طامعاً في نصيب منها). أمضى الشاه الأسابيع الثلاث الأولى في مراكش، في قصرٍ فخمٍ محاطٍ باشجار النخيل، غير بعيد عن جبال الأطلس. ولكن سرعان ما بدأت الأمور تسوء بتوالي الصدمات عليه. فالتطورات التي حصلت في إيران بعد مغادرته كانت سلبية جداً بالنسبة له، وتنذر بأن بقايا نظامه في طريقه إلى التفكك الكامل، بما فيهم كبار الجنرالات الذين صاروا عاجزين عن مواجهة المدّ الشعبي والزخم الثوري الذي اشتدّ مع عودة آية الله الخميني المظفرة إلى البلاد. أدرك العالم كلّه أن إيران دخلت مرحلةً جديدةً وأن نظاماً ثورياً إسلامياً قد بدأ ينهض على أنقاض نظام الشّاه. كانت الصدمة الأولى من الملك الحسن الثاني نفسه الذي أوصل رسالة إلى الشّاه بأن بقاءه في المغرب يجب ألاّ يطول (شعر الحسن الثاني بأن الشّاه بات عبئاً ومصدر حرجٍ له أمام شعبه الذي لا يكنّ للشّاه أيّ مودة. كما أن المغرب كان يستعد لاجتماع منظمة الدول الإسلامية وكان وجود الشّاه عنده أمراً غير مريح للعديد من الدول).

وأما الصدمة الأكبر، فجاءت من الحليف الأكبر والأمل الأوحد الباقي للشاه: أميركا. أعلن كارتر، مدفوعاً بتوصية وزير خارجيته سايروس فانس، أن الشّاه غير مرحّبٍ به في أميركا لأن مجيئه في هذه الظروف الصعبة سيزيد الأمور سوءاً وسيُعقّد الموقف داخل إيران وقد يؤدي أيضاً إلى استفزاز النظام الجديد، ما سينعكس سلباً على مصالح الأميركيين الموجودين في إيران ويهدد سلامتهم. أرسل كارتر مندوباً اجتمع بالشّاه في مراكش ونقل له الموقف الجديد للإدارة الأميركية. أُصيب الشاه بإحباطٍ شديد وشعر بطعنةٍ في الظهر ونكران للجميل. "إنهم يعاملونني كالجرذ". اشتكى الشّاه إلى صديقه القديم في نيويورك، رئيس بنك تشيس مانهاتن، ديفيد روكفيلر حين اتصل به طالباً منه المساعدة. كان ديفيد روكفيلر مستعداً تماماً لفعل كلّ ما يمكنه لأجل مساعدة أحد أهم زبائن البنك على مستوى العالم. بدأ روكفيلر العمل وشكّل ما يشبه خليّة أزمة ضمّت بالاضافة إليه، شخصيات رفيعة المستوى في السياسة الأميركية: هنري كيسنجر وجون ماكلوي (سبق وشغل منصب مدير البنك الدولي، وقبل ذلك كان المندوب السامي الأميركي في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية).

بدأ اللّوبي المؤيّد للشّاه العمل عن طريق الضغط الشديد على كارتر وإدارته لأجل إقناعهم بالسماح للشّاه في بالقدوم إلى أميركا (في الواقع، كان روكفيلر يأمل بأن تتمكن أميركا من إعادة الشاه إلى الحكم كما فعلت في الماضي، ولو حصل ذلك فسيكون له ولمصرفه مكانة في إيران تصل عنان السماء). ولكن كارتر وفانس كانا مصمّمين على تجنّب المزيد من المشاكل مع النظام الجديد في إيران، وبالتالي كان الرفض قاطعاً. كان على روكفيلر وزميليه أن يتصرفوا بسرعة ويجدوا بلداً يوافق على استقبال الشّاه فوراً، بانتظار أن تنجح مساعيهم مع كارتر وإدراته لاحقاً. وجد روكفيلر الحلّ: جزر البهاما! وبالفعل، قام بترتيبات مع رئيس حكومة البهاما، وهي أقرب ما تكون إلى الرشوة من أجل استقبال الشّاه الهارب عنده. وفي أواخر آذار/مارس 1979 وصل الشّاه وعائلته إلى جزر البهاما بعد حوالي عشرة أسابيع قضاها في المغرب. ولكن الإقامة لم تكن مريحةً في جزر البهاما، إذ وصل اليها عددٌ كبير من الصحافيين والمراسلين والمصوّرين لمتابعة أخبار الشّاه الفارّ، مما سبب له إزعاجاً كبيراً. وزاد الأمر سوءاً حين غيّرت حكومة البهاما موقفها تجاه الشّاه وطلبت منه المغادرة خلال 10 أيام. اتّصل الشّاه بصديقه روكفيلر من جديد طالباً منه إيجاد مأوى آخر له. حاول روكفيلر أن يُقنع صديقه مستشار النمسا برونو كرايسكي بالسماح للشّاه بالإقامة في سالزبورغ ولكنه فشل. وهنا، تدخّل هنري كيسنجر واتّصل بصديقه القديم الرئيس المكسيكي خوسيه بورتيلا وأقنعه بقبول استقبال الشاه (رغم معارضة وزارة الخارجية المكسيكية). وصل الشّاه إلى المكسيك في رابع محطة له من رحلة المنفى، في 10-6-1979 وكانت إقامته فيها جدّ مريحة. زاره في الفيلا الفاخرة التي استؤجرت لأجله، كلّ من هنري كيسنجر وديفيد روكفيلر. كما زاره الرئيس الأميركي الأسبق نيكسون. ولكن إدارة كارتر استمرت في إدارة الظَّهر له تماماً. 

بدأت الحالة الصحيّة للشاه في التدهور بشكل خطير (كان يُخفي إصابته منذ عدة أعوام بالسرطان). وشكّل مرضُ الشّاه مدخلاً ممتازاً لاستئناف اللّوبي المؤيد له جهوده في أميركا. كثّف الثلاثي روكفيلر-كيسنجر- ماكلوي من اتصالاتهم بالرئيس كارتر ومستشاره للأمن القومي زبغنيو بريجينسكي ووزير الخارجية فانس. "لا يجوز أن تعامل أميركا صديقاً كبيراً لها بهذه الطريقة المهينة" قال روكفيلر. أما كيسنجر، فذهب إلى حدّ التلويح لكارتر بتخريب مساعيه في الكونغرس بشأن المصادقة على اتفاقية (سالت) مع الإتحاد السوفياتي إذا لم يُظهِر ليونةً في موضوع الشّاه. واستعان لوبي الشّاه بطبيبٍ مشهورٍ أُرسل لمعاينة حالته الصحية، فعاد بتقرير يبالغ في تقدير شدة مرضه من أجل إقناع كارتر. "أخبروني أنه على حافة الموت وأنه لا يمكن علاجه إلاّ في مستشفياتنا هنا في أميركا"، هكذا برّر كارتر فيما بعد قراره بالسماح للشّاه دخول أميركا في 22-10-1979.

كان خبر وصول الشّاه إلى أميركا بمثابة الشرارة التي أعادت إشعال الأوضاع في طهران. هاج الثّوار وماجوا، واقتحم الطلاب الغاضبون السفارة الأميركية وأخذوا من بها كرهائن مطالبين بتسليم الشّاه. وهنا، بدأ كابوس كارتر الرهيب الذي لم ينته سوى بعد 444 يوماً والذي أنهى حياة كارتر السياسية. وجد كارتر نفسه مضطراً إلى التخلي عن الشّاه، وسرعان ما وجد له مأوى جديداً في إحدى الدول الصغيرة التي تدور في الفلك الأميركي: بنما. غادر الشاه مجبراً إلى بنما حيث أمضى فيها ثلاثة أشهر، مريضاً مهزوماً مكسوراً، إلى أن تدخّل صديقه السادات من جديد ودعاه إلى مصر. اتّخذ الشّاه مصر مستقرّاً دائماً، فوصل إلى القاهرة في 24-3-1980 حيث بقي إلى أن وافته المنيّة بعد ثلاثة أشهر، ولسان حاله يقول: "ليس لأميركا صديق".