الإسلام والفنّ.. الجمال المُحرّم
الموسيقى كفن، وفق المنهج الإسلامي، توضع في خانة المباحات لذاتها، فقد يُعرض لها ما يجعلها واجباً ومندوباً أو حراماً ومكروهاً
سألني صديق: "لماذا أشعر بالذنب عقب استماعي إلى موسيقى الأخوين رحباني التي أحبّها، رغم أنها تساعدني على ارتخاء الأعصاب وهدوء النفس؟!"، فأجبته مبتدئاً بالجزء السهل من الإجابة، وهو شعوره بالراحة النفسية عندما يستمع إلى الموسيقى، فالموسيقى نوع من الجمال، والإحساس بالجمال فطري في طبيعة الإنسان، والموسيقى جمال مسموع في لغة إنسانية تستخدم الأنغام والألحان، فتُثير الوجدان، وتُحرّك العواطف، فتريحه. أمّا الشّعور بالذنب، وهو ما خزّنه العقل في عمق الوعي من تعليمات دينية تُحرّم الموسيقى، وتطفو على سطح الوعي على شكل تأنيب ضمير وشعور بالذنب على ارتكاب "إثم" الاستماع إلى الموسيقى، فيسبب الاضطراب النفسي.
هذا الاضطراب سببه جمود فكريّ في فهم النصوص الدينيّة، تحجّر عند تفسير مدرسة إسلامية ممتدّة عبر الزمان والمكان، وزادت سطوته مع اختلاطه بأموال البترودولار، وهو يرى في الفن رجساً من عمل الشيطان، فمال إلى تحريم معظم الفنون، ولا سيّما الموسيقى والتصوير والتمثيل.
هذا الأمر يقتضي أن نوضح بعض النقاط حول الفنّ بشكل عام، والفنون الجميلة الثلاثة، الموسيقى والتصوير والتمثيل، فالفنّ نمط خاصّ من التعبير عن حقائق الحياة من وجهة نظر الفنان بطريقته الخاصة، يُعبّر فيها عمّا في نفسه، مستشعراً ما في الكون من جمال، فإذا التقت قيمة الجمال مع قيمة الحق، وارتبط الفن بمقاصد أخلاقية وغايات سامية، وعبّر عن الوجود منسجماً مع التصور الإسلامي له، ومع مقاصد الشريعة الإسلامية، ومن دون مخالفة لأحكامها، أصبح فناً مُباحاً، وإذا كان عكس ذلك أصبح غير مباح... والقرآن الكريم تحدّث عن الزينة كتعبير عن الجمال المطلوب من الإنسان: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، ونهى عن تحريم الزينة والجمال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ}، وأرشدنا إلى قيمة الجمال في المخلوقات: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}، إضافة إلى قيمتها النفعية.
والموسيقى كفن، وفق المنهج الإسلامي، توضع في خانة المباحات لذاتها، فقد يُعرض لها ما يجعلها واجباً ومندوباً أو حراماً ومكروهاً. ورغم الصورة السلبية الحالية الطاغية على الموسيقى والغناء، فلا ينبغي أن تخرجها عن أصل الإباحة، كما لا ينبغي أن تُغطّي على الصورة الجميلة القليلة الموجودة حالياً في الموسيقى والغناء، ورأي حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ويوافقه عليه الكثير من العلماء المعاصرين، منهم الشيخ محمد عمارة، أنَّ الموسيقى والغناء فطرة إنسانية تُحاكي بها الصنعة الإنسانية الخلقة الإلهية التي أبدعها الله تعالى في الطيور والأشجار، فالصوت الجميل الصادر عن حنجرة الإنسان هو محاكاة للأصوات الجميلة من حناجر الطيور، ومعزوفات الأوتار الناتجة من صنع الإنسان هي محاكاة لما تعزفه أوراق الأشجار وأغصانها عندما تهب عليها نسمات الرياح، فإذا كان من غير المعقول تحريم الأصوات الجميلة الصادرة عن حناجر الطيور وأنغام الأشجار، فمن غير المعقول منطقياً وفطرياً تحريم ما يصدر عن حنجرة الإنسان وعزفه، وهذا المنطق العقلي والفطري يتفق مع النصوص النبوية الصحيحة، ففي صحيح البخاري، روت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - الحديث النبوي الذي أقرّها على سماع جارتين تُغنيان في بيتها، وكذلك قال لها عندما زفّت امرأة إلى رجل من الأنصار: "يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو"، ما دام اللهو مُباحاً وبعيداً من المخالفات الشرعية.
إن النظرة الإسلامية إلى التصوير كفن تشكيلي تخضع للقاعدة نفسها في التحريم والتحليل، فقد حُرّمت الصور والتصوير في الأحاديث النبوية، ونهى الرسول عن الأصنام المعبودة المُعبّر عنها بالإله أو الصنم أو الصورة، ففي حديث رواه البخاري ومسلم: "يُجمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين، ثم يُقال: ألا تتبع كل أمة ما كانوا يتبعون، فيتمثل صاحب الصليب صليبه، ولصاحب الصورة صوره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون"، فارتبط تحريم التصوير هنا بالشرك. وعندما لم تكن مظنة الشرك والعبادة، كانت آية من آيات الله تعالى ونعمه: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ}.
أما عندما كانت مظنة الشرك، فلا بد من أن تُحطّم: {مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}. ولذلك، حطّم الرسول تماثيل المسجد الحرام، فالقضية قضية المقاصد، وليست الصورة مجردة. ولهذا، ترك الفاتحون الأوائل الآثار التي فيها صور وتماثيل في البلاد المفتوحة بسبب وعيهم الديني لهذه القاعدة.
وقد فسّر الإمام محمد عبده الحديث النبوي: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون"، أي الصورة التي تسبب اللهو الشاغل عن الله، أو التبرك الممهد للشرك، فإذا زال هذان العارضان وقُصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير مظاهر الطبيعة التي تحقق القيمة الجمالية والفائدة العلمية، ولا خطر على الدين في ذلك، لا من جهة العقيدة، ولا من جهة العمل.
ولا تختلف النظرة الإسلامية إلى التمثيل كفن وعمل بشري يخضع للمعاملات المباحة في الأصل ما لم يرد دليل على تحريمها، والحكم الشرعي مبني على قرائن التمثيل الإيجابية أو السلبية، والواقع الحالي لفن ومهنة التمثيل سلبي، وهذا هو سبب التحريم، وليس التمثيل ذاته، فالتمثيل حرام إن كان هدفه نشر الرذيلة والشر، وإن صاحبته مُخالفة لضوابط الشرع، وحلال إن كان هدفه نشر الفضيلة والخير، وإنه لم تصاحبه مُخالفة لضوابط الشرع.
وفي فتوى لدار الإفتاء المصرية توضح حكم العمل بالتمثيل، قال أمين عام الفتوى الشيخ محمد عبد السميع: "إنَّ التمثيل مهنة مثل كثير من المهن تعتريها أحكام، فإذا كانت في ممارساتها تدعو إلى الخير، وتأمر الناس بمكارم الأخلاق والفضيلة، وليس فيها مخالفة لأحكام الشرع، فهي جائزة ومالها حلال".
وإذا كان معظم القائمين على مهنة وفن التمثيل عند العرب والمسلمين يوظفونه في اتجاهات مُخالفة لمقاصد الشريعة الإسلامية، ومناقضة لمعايير التصوّر الإسلامي، وغير ملتزمة بضوابط المعاملات الإسلامية، فهذا يستوجب من الآخرين أن يوظفوه في اتجاهات منسجمة مع مقاصد الشريعة والتصور الإسلامي وملتزمة بالضوابط الإسلامية، ليكون فن التمثيل وسيلة للدعوة إلى الإسلام، والتحريض على الثورة، ونشر الوعي بالدين والتاريخ وقضايا الواقع، ونشر الرواية العربية لدحض الرواية الصهيونية. وهناك نماذج لأعمال درامية جميلة ونافعة ساهمت في تقديم صورة مُشرقة للإسلام، وفي خدمة قضايا الأمة الكبرى، وفي مقدمتها قضية التحرر من الاستعمار والقضية الفلسطينية.
خلاصة الأمر أنّ المنهاج الإسلامي يجعل كل عمل الإنسان لوناً من العبادة لله تعالى، ويجعل المعاملات نوعاً من العبادة بمفهومها الواسع، الأصل فيها أن تُضبط بمعايير الشرع، وألا تخالفه لتكون مُباحة، وهو ما ينطبق على الفن بكل أنواعه وأشكاله، ومنه الموسيقى والتصوير والتمثيل، وخصوصاً عندما يكون محكوماً بالذوق الجميل الذي يُعبّر فيه الفنان عما في نفسه، عندما يستشعر ما في الكون من جمال مُظِهر لعظمة الخالق، وعندما يكون جزءاً من تزكية النفس، وترقيق المشاعر، وترقية العواطف، وتهذيب الذوق... ولكن من دون أن يحوّل حياتنا كلها إلى فن وزينة يغرق فيها الإنسان بالمتع الحسية واللذة المادية، ويغوص فيها في وحل عالم المنفعة واللذة.
والفرق بين كون الفن جزءاً من حياتنا أو كل حياتنا، كالفرق بين حاجتنا لحبيبات السكر من أجل تحلية المشروب، وإغراق المشروب بالسكر ليتحوّل إلى سكر، فالزينة مطلوبة لحياتنا كقيمة جمالية نحتاجها لإصلاح الفرد والمجتمع والأمة، ويبقى لنا أن نحدد المضمون الذي يصلح الإنسان والمجتمع والأمة.