لقاح كورونا بداية التاريخ؟
إن التوصل الى اللّقاح سيكشف عن الأزمة الحقيقية التي يعيشها النظام الرأسمالي الليبرالي، وهي أزمة جوهرها الأخلاق وظاهرها التناقض في المبادئ، وستدرك الكثير من المجتمعات عاجلاً أم آجلاً أن هذا النظام ليس مثالياً كما صُوِّر لهم.
يُبحر الباحث في مجال الدراسات الدولية في أعماق علوم إنسانية مختلفة متداخلة فيما بينها، فهو يحتاج حتما الى معرفة بفلسفة التاريخ (حركة التاريخ) مثلاً، خاصة بعد أن يطّلع على مقال فرانسيس فوكوياما (نهاية التاريخ؟)، حيث يدّعي أن الديمقراطية الليبرالية يمكنها أن تكون الشكل النهائي لأي حكم إنساني، فهي تمثّل منتهى التطور الإيدولوجي للإنسانية أي أنها من هذه الزاوية نهاية التاريخ، ذلك أن التاريخ ينتهي عندما يصبح المجتمع البشري نظاماً اجتماعياً-سياسياً يُشبع الحاجات الأكثر عمقاً، إلحاحاً وأساسيةً1. كان جزء كبير من العالم يعيش في تلك الفقاعة منذ نهاية الحرب الباردة؛ وما إن دخل العالم في أزمة كورونا، حتى بدأت فقاعة نهاية التاريخ تتّجه نحو الانفجار، فهل سيمثّل إنتاج اللّقاح بدايةً جديدةً للتاريخ؟
في الوقت الذي نشهد فيه موجة انتشارٍ ثانية للفيروس، هنالك أكثر من 100 لقاح في طور الاختبار، تتبّع منظمة الصحة العالمية 70 منهم، بينما أعلنت روسيا مؤخراً عن تسجيل لقاح (سبوتنيك- في)2 ، ليصبح أوّل لقاح مسجّل في العالم. إنّ تسارع الأحداث والتطوّر السريع في هذا المجال يشير إلى أن التوصّل إلى لقاح فعّال ضد فيروس كورونا هو مسألة وقت وتوفيق إلهي لا أكثر، رغم أنّ اللّقاح سلاحٌ طبيٌّ مهمّ في الحرب على فيروس كورونا، إلاّ أنه ينطوي على تحديات كبيرة للأنظمة السياسية في العالم لا تقلّ ضراوة عن تلك التي حملها الفيروس نفسه.
تحدّيات اللّقاح
تشير مؤخراً مقالةٌ نشرها مجلس العلاقات الخارجية وهي مؤسسة بحثية في الولايات المتحدة إلى أن اللّقاح سيحمل معه أعباء من نواحي عدة، أوّلها إمكانية الوصول إلى اللّقاح (التوزيع)، وثانيها العوائد المادية المتمثّلة بالأرباح وبراءات الاختراع (الجائزة او المكافأة)3. إن التّعاطي مع هذه التحدّيات لا بدّ وأن يسلك رؤية إيدولوجية معيّنة، إذ أن نجاح الجهود أو المؤسسات العلميّة لدولة ما تعمل على إصدار اللقاح لا يعني بالضرورة نجاح نظامها في استخدامه بالصورة المثاليّة، وهذا يمثّل التحدي الأكبر للأنظمة في العالم، لاسيما الليبرالية الديمقراطية التي اعتقد الكثيرون أن التاريخ انتهى عندها.
يعالج النظام الديمقراطي-الليبرالي مسألة التوزيع بشكل عام على الصعيد الاقتصادي بالرأسمالية التي تعتمد على الثمن في توزيع الإنتاج على المجتمع، وتعتمد الثروة كجائزة أو مكافأة للريادة في الأفكار والإنتاج، لذا سيترتّب على الأنظمة الديمقراطية-الليبرالية أن تحدّد أوّلاً ما إذا كان اللقاح سلعةً تخضع لقوانين الاقتصاد الرأسمالي أم هو حاجةٌ يجب أن نتعامل معها بمنظور اخر.
اللّقاح حاجة
إن اللّقاح حاجة ضرورية لضمان صحة المجتمعات البشرية، لذا من الطبيعي أن يكون خارج حسابات السوق الاقتصادية لضمان عدالة التوزيع، لكن إخراج اللقاح من دائرة السوق يعني أن توزيعه سيكون منوطاً بالحكومة، والتي يتعين عليها ضمان المصلحة العامة للمجتمع في هذا الشأن، لذا تقوم الحكومات مثلاً بترتيب الأولويات في إعطاء اللقاح، فيتمّ على سبيل المثال توفيره للكوادر الطبية والجيش كأولوية قصوى وهكذا.
إلاّ أن التعامل مع اللقاح وفق هذا المنهج لن يكون مجدياً للشركات والمؤسسات التي بذلت جهوداً في إنتاجه، فهل ستحصل تلك الشركات على العائد المادي المنشود؟ بالطبع لا، إضافة الى ذلك قد تخسر تلك الشركات براءة اختراع اللقاح في قبال تعاون عالمي لزيادة الإنتاج على مستوى العالم، ذلك ان مؤسسة واحدة لن تتمكن من إنتاج كمية من اللقاح تكفي لسد حاجة العالم بأسره، وبراءة الاختراع هذه لن تكون مجانية بالتاكيد، لكنها لن تعود بفوائد مادية مشابهة كما لو كان الحال في السوق الحرّ.
اللّقاح سلعة
إن الواقع الذي فرضه النظام الليبرالي الرأسمالي سيجعل من اللّقاح حتماً سلعةً تخضع لمعادلة العرض والطلب الاقتصادية، وستكون آلة توزيع اللّقاح في دول ديمقراطية عديدة هي الثمن، فمن يمتلك ثمن اللقاح، سيكون محصّناً به ضد كوفيد-19، ومن لا يمتلك الثمن لن يحصل على اللّقاح. ولكونه سلعة نادرة العرض وعالية الطلب، سيكون ثمن اللقاح باهظاً بكل تأكيد، وفي حال تمكنت الحكومات من إيجاد آلياتٍ تدعم توفير اللقاح لمواطنيها، سيقف النظام العالمي أمام خطر توفّر اللّقاح في الدول المتطورة وصعوبة الحصول عليه في الدول النامية، فهل سيتمكن النظام الليبرالي العالمي من تحديد مصلحة المجتمع الدولي؟
أم أن مصلحة المجتمع لن يحددها نظام، ولا حتى المجتمع نفسه، بل ستأخذ يدٌ خفيّة4، كما عبّر عنها آدم سميث، بمصلحة الأفراد نحو مصلحة المجتمع؟
بداية التاريخ مجدّداً؟
إن التوصل الى اللّقاح سيكشف عن الازمة الحقيقية التي يعيشها النظام الرأسمالي الليبرالي، وهي أزمة جوهرها الأخلاق وظاهرها التناقض في المبادئ، وستدرك الكثير من المجتمعات عاجلاً أم آجلاً أن هذا النظام ليس مثالياً كما صُوِّر لهم، وأن كثيرون يتصوّرن أن حركة التاريخ الفكرية انتهت في الديمقراطية الليبرالية، إلا أن المستقبل ما زال يحمل في طياته المزيد، وستبدأ رحلة الإنسان مجدداً للبحث عن نظام اجتماعي سياسي يُشبع رغباته الأساسية ويحقّق العدالة الاجتماعية.
مصادر:
- كتاب نهاية التاريخ والانسان الاخير، مركز الانماء القومي، ص23 شبه مقدمة
- "https://www.cfr.org/article/politics-covid-19-vaccine) "The Politics of a COVID-19 Vaccine)