حسن زيد الَّذي عرفته

تعرَّفت إلى الأستاذ حسن زيد من خلال حضوره البارز في المشهد السياسيّ منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي.

  • حسن زيد الَّذي عرفته
    في العام 2011، كان حسن زيد، من القيادات الثورية التي يشار إليها بالبنان

إن الموت علينا حقّ. وإذا كان استشهاداً، فهو كرامة ما بعدها كرامة. كم صدمني خبر اغتيال الأستاذ الكبير حسن محمد زيد! ولم يخفّف من هول الفاجعة سوى اليقين بأنه لا يزال حياً عند ربّ السماوات والأرض، مثل كل الشهداء الذين قضوا نحبهم ولم يبدلوا تبديلاً. 

تعرَّفت إلى الأستاذ حسن زيد من خلال حضوره البارز في المشهد السياسيّ منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وكنت لا أزال في بداية مشواري مع "صاحبة الجلالة"، بينما كان الشّهيد من قيادات حزب الحقّ والمعارضة السياسية البارزة، غير أنَّنا تعارفنا وتحاورنا من خلال الصحافة المكتوبة قبل أن نلتقي وجهاً لوجه، فقد كتبت مقالاً لصحيفة "الشورى" عن الزيدية فكراً وتاريخاً، ونشر في حلقتين، وسرعان ما جاء التعقيب على المقال باسم حسن محمد زيد، غير أنَّ رئيس التحرير أرجأ النشر بعد أن وجد التعقيب منشوراً في صحيفة "الأمة".

وقد توسّع الأستاذ حسن في الرد والتوضيح، بعد أن وجدني مستنداً في ما كتبت إلى كتابات القاضي إسماعيل الأكوع عن الزيدية، التي قد لا تكون منصفة لتاريخ الزيدية بحسب كثيرين.

قبل كتابة المقال، كنت قد تجاذبت أطراف الحديث مع بعض الشباب الذين يدرسون المذهب الزيدي في الجامع الكبير في صنعاء، والذين كانوا يشتكون من التضييق الإعلامي على فكر الزيدية وتاريخها، وخصوصاً أنَّ حرب صيف 1994 منحت تحالف "المؤتمر" و"الإصلاح" نصيب الأسد من السلطة والنفوذ في البلاد، ورأينا أن نعمل شيئاً باتجاه كسر الحصار الإعلامي عن مظلومية الزيدية، إن جاز التعبير، من خلال إثارة النقاش عن الزيدية في منبر صحيفة "الشورى" التي كانت تكتسب شهرة كبيرة حينها، واتفقنا على أن أبادر إلى كتابة مقال مثير للجدل، لتأتي تعقيبات شباب الزيدية من باب حقّ الرد. 

ولما تصديت للمهمة، جاء التعقيب من حيث لم أتوقّع. كانت ردود الأستاذ حسن زيد عميقة وموضوعية، ولكنها نشرت في صحيفة "الأمة"، بخلاف ما خطّطنا له، غير أن ما جمعني لاحقاً به كان أكبر من جزئية كهذه على أهميتها، فالنقاشات السياسية داخل الأحزاب، وفي مختلف منابر المجتمع المدني، كانت تتجه إلى عناوين عريضة مرتبطة بتصحيح مسار الديموقراطية، وتعزيز الحقوق والحريات العامة، ومعالجة آثار حرب صيف 1994، والعودة إلى تنفيذ وثيقة العهد والاتفاق الّذي وقعت عليه كل الأحزاب اليمنية قبل الحرب.

برزت في هذه الفترة شخصيات معارضة جسورة، أمثال عمر الجاوي، وزيد الوزير، وصالح عباد مقبل، والدكتور عبد العزيز السقاف (ناشر صحيفة "يمن تايمز")، والدكتور محمد عبد الملك المتوكل، والأستاذ جار الله عمر، وغيرهم، إضافة إلى أسماء وازنة كانت على رأس قيادة حزب "الحقّ"، أمثال العلامة أحمد الشامي، والأستاذ محمد المقالح، والأستاذ عبد الكريم الخيواني، والأستاذ محمد المنصور، إضافة إلى الشخصية الأكثر جدلاً الأستاذ حسن محمد زيد.

وتمكّنت أحزاب المعارضة من أن تشكّل مجلساً تنسيقياً في ما بينها، إلى أن تشكَّل "اللقاء المشترك" الذي تشرفت بحضور اجتماعاته الدورية بصفتي السياسية لا الصحافية، كعضو قيادي في اتحاد القوى الشعبية، ثم كمقرر للمجلس في فترة لاحقة.

كانت اجتماعات "اللقاء المشترك" بمثابة مدرسة سياسية في الحوار وإدارة الخلافات، وصولاً إلى صياغة البيانات والتفاهمات التي كان يغلب عليها التكتيك السياسي لدى البعض، فيما كان آخرون، وعلى رأسهم الشهيد الدكتور محمد عبد الملك المتوكل، يحرصون على وضع رؤى استراتيجية تقود اللقاء المشترك والبلد إلى المستقبل، وكان ما يعجبني في الأستاذ حسن زيد أنه كان ذكياً في مجاراة الرؤى والمواقف ذات الطابع التكتيكي، بالحكمة حيناً، وبالسخرية حيناً، وبالحزم حين يتطلَّب الأمر. وإضافة إلى ذلك، كانت له طروحاته العميقة أيضاً، كما كانت علاقاته الشخصية الديناميكية عاملاً مساعداً لتمرير مقترحاته السياسية على الطاولة.

ومما يؤسف له أنّ حزب "الحقّ" الَّذي كان الشهيد ينتمي إليه مرَّ بفترات حرجة جراء الاختلافات الداخلية والمؤامرات السلطوية، وهو ما انعكس سلباً على مختلف أنشطة الحزب وعلاقته بالجمهور، وكم كنت أتحسَّر حين أرى تعاظم هذه الخلافات بين أبناء الفكرة الواحدة، في وقت كان اليمن أحوج ما يكون إلى أحزاب متعافية تقود عجلة النهوض والتغيير وتسير بها وبالناس إلى آفاق رحبة تغدو فيها النظريات والبرامج حقيقة معيشة على أرض الواقع.

ولكنَّ الأجواء الَّتي عاشها حزب "الحقّ" كشفت عن شخصية صلبة لا تفتقر إلى الذكاء ومهارة القفز على العقبات والتحديات، ما جعل الشهيد حسن زيد، محلّ تقدير النخبة السياسية في السلطة والمعارضة، ليصبح نجماً يستقطب الصحافة ومختلف وسائل الإعلام، ولا يجفل من المواجهة، ولا يتردَّد في قول ما يراه حقاً.

ورغم أنَّ أدوات السلطة والنظام السابق دأبت على تشويه سمعة الرجل في أكثر من مناسبة، فقد كان يخرج من التحديات أصلب عوداً، وأقوى شكيمةً، كما أنّه، وغيره من قيادات الرأي ورجالاته، كان عرضة على الدوام لترغيب السلطة وترهيبها، إلا أنَّ الشهيد حسن زيد، لم ينثنِ عن مواقفه المبدئيَّة، ولم يصطفّ يوماً إلا حيث يجب أن يكون أمثاله من المصلحين والمناضلين.

وفي العام 2011، كان حسن زيد، من القيادات الثورية التي يشار إليها بالبنان. وفي العام 2014، انحاز إلى الثورة الشعبية، وعمل - بحكم خبرته وعلاقاته السياسية - على تجسير الهوة بين "أنصار الله" وأحزاب المشترك. وحين باشرت السعودية عدوانها على اليمن، رفض الالتحاق بمؤتمر الرياض، واصطف على جانب أبناء وطنه في مواجهة العدوان السعودي الأميركي، ما جعل الرياض وأدواتها يدرجونه في قائمة الاستهداف المعلنة.

وكان للشّهيد حضوره الشّخصي وعلاقاته الاجتماعيّة المميّزة. وقد رأينا كيف تداولت صفحات التواصل الاجتماعي خبر اغتياله، وفاضت بمشاعر الاستنكار والإشادة بتاريخ الراحل ومواقفه. على الصّعيد الشّخصيّ، كان (رحمه الله) أحد أوائل السّياسيين الذين هرعوا إلى مواساتي وأسرتي عقب الغارة العدوانيّة التي استهدفت منزلي في أيار/مايو 2019، وأذكر قبل ذلك أنَّ سوء فهم حصل بيننا، عاتبني إثره بقسوة لم أعهدها. وعندما التقيته في فعالية لاحقة، بادرته بالسّلام، فاحتضنني بحرارة وكأنَّ شيئاً لم يكن.

بعدها أيضاً التقيته في فعالية السّنوية الثانية للشهيد الدكتور محمد عبد الملك المتوكل. وقد تكلَّم أغلب الحاضرين عن مناقبه، ثم جاء دور الأستاذ حسن زيد، الذي استرسل مستحضراً ذكرياته مع الشهيد المتوكل، حتى أجهش بالبكاء.

كم أَكبرتُ دموعه حينها! لكنّني لم أتوقّع أبداً أن قلمي سيبكيه ويرثيه، فقد خسرناه وخسرته اليمن سياسياً محنّكاً، ومحاوراً من الطراز الرفيع، وعنواناً للعقلانية والمدنية الأصيلة والوطنية الصادقة التي توّجت بتضحية عظيمة، حين فاز بالشهادة في سبيل الله، كما فاز بها قبله الإمام علي (عليه السلام).