المقاومة العالميَّة: نحو نظام إنساني جديد (1)

إلى الهاوية يسير العالم. هكذا تبصّر موران مستقبل العالم، ما دامت "البربرية" تتمظهر في مستويين متداخلين: الاستعمار والغزو ونهب الثروات، والهيمنة التقنية والاقتصادية إلى حدّ إخضاع كل القيم البشرية لثقافة الحساب والأرقام. 

  • دمّرت الرّأسمالية البيئة والدّيموقراطية والمساواة الاجتماعية
    دمّرت الرّأسمالية البيئة والدّيموقراطية والمساواة الاجتماعية

الكوكب ينهار. الأزمات تحاصر العالم من كلّ حدبٍ وصوب. أهمّ الفلاسفة في عصرنا يتفكّرون في فهم ما آلت إليه البشرية. رحت أقرأ ما توصّلوا إليه. كان إدغار موران واحداً منهم. شخّص المفكّر الفرنسي موران مرض الكوكب، وأعلنه صراحةً بكلمةٍ يتبعها نعت: "الرّأسمالية المتوحّشة". 

أخبِرنا يا موران، ماذا فعلت الرّأسمالية؟ يجيبنا: "دمّرت الرّأسمالية البيئة والدّيموقراطية والمساواة الاجتماعية، وخلقت سوقاً ضخمة، من دون روح أو وعي أو معرفة. هي تفضّل الحسابات الاقتصادية على الجانب الإنساني". ومثل زميله المفكر الألماني يورغان هابرماس، دعا موران إلى إلغاء اللّيبرالية الجديدة، وذلك "عبر خلق مجتمع إنساني حقيقي يبدأ أوّلاً بالوقوف في وجه هذا الفكر الدارويني[1] الاجتماعي بأيّ ثمن". 

لم يقدّم موران أيّ جديد، إنّما أعاد على مسامع الرأي العام ما توصّل إليه منذ بداية الألفية الثالثة، في محاولته الإجابة على سؤال إشكالي مربك: "إلى أين يسير العالم؟". 

إلى الهاوية يسير العالم. هكذا تبصّر موران مستقبل العالم، ما دامت "البربرية" متلازمة كجزء أساسيّ في الحضارة الأوروبية، وتتمظهر في مستويين متداخلين: الاستعمار والغزو ونهب الثروات، والهيمنة التقنية والاقتصادية إلى حدّ إخضاع كل القيم البشرية لثقافة الحساب والأرقام. 

لا بدّ من المقاومة. هكذا يدعو موران من أجل غاية إنسانية: إنقاذ الآخر والكوكب. 

الانهيار شبه المحتوم

عرّت أزمة كورونا إنسانياً أنظمة الاتحاد الأوروبي، ومعها الولايات المتحدة الأميركية، على لسان مفكّريها، وكشفت عن التّناقض المتفجّر بين المطالبة بالوضع الإنساني وإنكاره في وقت واحد من أجل مصالحها الاقتصادية العليا. هذه الحقيقة الواضحة التي تأخّر البعض في الوصول إليها، كان قد علم بها المفكّر الفرنسي جان بول سارتر في العام 1961، بعد أن قرأ كتاب "معذّبو الأرض" للمناضل الأمميّ فرانز فانون.

كان الكتاب بمثابة وصيّة فكرية نحتها فانون من عمق جراحات المضطهدين إلى حركات العالم الثالث، في مواجهتها للاستعمار والإمبريالية والهيمنة الغربية، مستشرفاً فيها مستقبل أوروبا ومن ينتهج نهجها. دعا سارتر الأوروبيين إلى قراءة الكتاب، إن كانوا يجرأون على ذلك، ليكتشفوا ماذا صنعوا بأنفسهم من خلال معرفة ما فعلوه بأرواح المعذّبين في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وليدركوا حقيقة جوهرهم القائم على "الانسجام الشّديد بين النّزعة الإنسانية والعنصرية في آن معاً، بحيث إنّ الأوروبي لم يستطع أن يجعل من نفسه إنساناً إلا بأن صنع عبيداً ومسوخاً".

أطلق سارتر الدّعوة إلى التفكّر في كتابات المعذّبين في الأرض، باعتبار أن شهادتهم لا تردّ، كي لا تصل أوروبا وأميركا الشمالية إلى مصيرهما المتسارع بشكل جنوني نحو "خطر الموت الكبير والهلاك والانهيار". كلّ ما ستصل إليه القوى الاستعمارية، بحسب تعبير فانون، ما هو إلا "لحظة ارتداد الأذى على فاعله". بعبارة أخرى، هو نتيجة عنف المستعمِر تجاه المستضعفين في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وفي مقابل الانهيار شبه المحتوم للقوى الاستعمارية، يؤكد سارتر بشكل يقيني في السطور الأخيرة من مقدّمة كتاب فانون أنّه سيأتي زمن "صناعة قصة الإنسان"، حيث ينتزع الإنسان المقاوم من القوى الاستعمارية أسطورة "صناعة التاريخ". 

مقاومة بالرّوح... وأخرى من أجلها

قرأت ذات يوم قولاً نرجسياً عالي المستوى يعود إلى كبير مستشاري الرّئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، في معرض حديثه عن مشروع المحافظين الجدد، المعروف بعنوان "مشروع القرن الأميركي الجديد"، والرّامي إلى فرض الهيمنة الأميركية على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. يقول بوش في العام 2004: "... نحن نؤلّف إمبراطورية اليوم، وعندما نتصرّف نصنع واقعنا الخاص.. نحن صنّاع التاريخ.. وأنتم جميعاً ستحلّلون أعمالنا ليس أكثر".

بعد سنتين على مقولة "نحن صناع التاريخ" الأميركية، أسقطت المقاومة الإسلامية في لبنان مشروع القرن الأميركي من بوابة لبنان، عبر إلحاق الهزيمة المدوّية بالعدوّ الإسرائيلي في حرب تموز 2006 وفرض معادلة "توازن الردع" التي ما زال مفعولها مستمرّاً حتى يومنا هذا.

انتصار 2006 وتحرير الجنوب اللبناني في العام 2000 شكّلا حدثين تاريخيين افتتحا زمناً جديداً سقطت فيه أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وبرزت إلى العالم حركة مقاومة تحرّرية نموذجية اسمها حزب الله. بالتوازي، كانت المقاومة الفلسطينية تصدّ الاعتداءات المتتالية للعدوّ الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية، محرزةً تقدّماً نوعيّاً باستخدام صواريخ أصبحت لاحقاً نقطوية وتشكّل تهديداً حقيقياً داخل الكيان الإسرائيلي. 

أما الضّربة الأكبر في مشروع أميركا، فقد تجلّت في أرض العراق على يد المقاومة العراقية التي استمرّت في القتال والمقاومة منذ الأيام الأولى للغزو الأميركي [2003] حتى العام 2011. 

الهزائم المتتالية لـ"إسرائيل" وأميركا في المنطقة جعلتهما تنكفئان عن الخيار العسكري في تحقيق مشروعهما الاستعماري، ولجأتا إلى حروب في الوكالة، عبر خلق حركة إرهابية متشدّدة اسمها "داعش"، باعتراف وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون في كتابها "خيارات صعبة" لتدمير الشرق الأوسط، في سبيل إعادة هندسته وفق الرؤية الأميركية.

للمرّة الثالثة، سقط المشروع الأميركي في المنطقة، إذ أعلن في العام 2017 تحرير كامل الحدود السورية العراقية من الإرهاب التكفيري، وتحرير جرود السلسلة الشرقية للبنان بفعل التنسيق بين حركات المقاومة في لبنان والعراق وسوريا وجيوش تلك الدول. 

"لماذا تخسر أمريكا كل حرب تبدأ بها"، سؤالٌ إستراتيجي يُطرح بقوّة في دائرة التّحليلات الإستراتيجية والإعلامية بفعل سلسلة الهزائم التي تشهدها أمريكا منذ حربها في كوريا [1950] وفيتنام [1962] وأفغانستان [2001] والعراق[2003] حتى يومنا هذا. 

لجأ الباحث في الإستراتيجيات العسكرية، والمقاتل السابق في الجيش الأميركي في حرب  فيتنام هارلن .ك. أولمن إلى "تشريح الفشل الأميركي" في كتاب يُعتبر من أهمّ الكتب التي تعالج موضوع القوة العسكرية الأميركية ومآلاتها سياسياً وعسكرياً. حدّد الباحث أولمن أسباب الفشل الأمريكي في عاملين اثنين: الأول هو غياب الكفاءة في اتّخاذ القرارات الإستراتيجية عند رؤساء الدولة وافتقارهم للخبرة، الثاني- وهو الأهمّ- الجهل بثقافة العدوّ ومدى استعداداته لقبول ثقافة أميركا وقيمها [التي أثبتت التجربة التاريخية مدى زيفها وازدواجيتها].

يُحيلنا العامل الثاني إلى مبدأ "المقاومة" القائم على ثنائية متكاملة بحسب إدغار موران: أن تقول "لا" لفرض ثقافة تُلغي خصوصية ثقافة الشعوب، وأن تقول "نعم" للحرية. وهنا يبدأ الحديث عن الإلهام والابتكار. 

واقعاً، حركات المقاومة تبتكر، تُبدع، وبفعل التّراكم في التجارب تصبح نموذجاً ملهماً تقف أمامه القوى الاستعمارية والمهيمنة متحيّرةً عاجزة: كيف استطاعوا فعل ذلك! وهل في ذلك نوع من السرّ؟ 

 [1] الدارويني: نسبةً للعالِم تشارلز داروين، صاحب نظرية الانتقاء الطبيقي والصراع من أجل بقاء الأفضل. المقصود هنا باتّباع الأنظمة الرأسمالية الفكر الدارويني هو أن هذه الأنظمة مستعدة للتضحية بالفئات الهشة والضعيفة، أي المسنين والمرضى حفاظاً على مصالحها الاقتصادية.