سوريا وروسيا بين الصّداقة والمصالح
سوريا هي التي أوجدت لروسيا موطئ قدم في المياه الدافئة وعلى طريق الحرير، والصمود السوري هو الَّذي دفع روسيا لتكون قطباً عالمياً يستطيع أن يتصدى للهيمنة الأميركية ومكّنها من حماية مصالحها الجيوسياسية.
بما أنَّ الشَّعب السّوري يتمتّع بمستوى عالٍ من الإدراك والثقافة السياسيّة، فإنه ينتبه إلى أدقّ التفاصيل في السياسات التي تهمه، وخصوصاً تلك التي تتعلَّق بوطنه. من هذا المنطلق، ومنذ سنوات قريبة مضت، وتحديداً منذ أن لاحظ السوريون مراعاة روسيّة للجانب التركي على حساب المصلحة الوطنية السورية، بدأوا بالعتب غير المعلن الَّذي راكمته بعض الأحداث ليكون معلناً، وليتحوّل في ما بعد إلى لومٍ وانتقادٍ.
ويأتي في مقدّمة تلك الأحداث تدخّل روسيا لكبح الاندفاعات العسكريّة للجيش السوري في أكثر من زمان ومكان؛ هذه الاندفاعات التي كانت كفيلة بتحرير كلّ المناطق المحتلّة في الشمال السوري، لو قدّر لها أن تستمر قبل أن تتدخل روسيا لوقفها إرضاءً للجانب التركي، كذلك التجاهل الروسي للاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على مناطق في الداخل السوري، والتأخير في تفعيل منظومة الصواريخ S300 التي كان يمكن أن تردع الكيان الصهيوني عن اعتداءاته، وعدم تقديم ما يساعد الشعب السوري على تجاوز الحصار والعقوبات الأميركيّة والأوروبيّة، ولا سيّما أنَّ روسيا هي الدولة الوحيدة التي تستطيع كسر هذا الحصار، لكون ميناء طرطوس السوري أصبح مستأجراً من قبلها.
ولعلّ الحدث الذي جعل السوريين يعلنون ريبتهم وتذمّرهم من الأداء الروسي، هو الحرائق التي تعرّضت لها بعض المناطق السورية، والتي سبّبت خسائر فادحة أتت لتكمل معاناتهم. وقد تعاملوا مع تلك الحرائق من دون أيّة مساعدة، رغم أنَّ النيران كانت تندلع قرب القاعدة العسكريّة الروسيّة في حميميم، واكتفت الطائرات الروسيّة المخصّصة لهذه الغاية بالتعامل مع الحرائق التي قد تسبب خطراً على القاعدة. وما يجعل السوريين يشعرون بالغصّة هو أن روسيا قدّمت المساعدة عند اندلاع حرائق مشابهة في كلٍّ من تركيا و"إسرائيل".
هذا التصرف الروسي أثار قلق السوريين، سواء كان ذلك الإحجام هدفه إرضاء الأميركي أو الضغط على السوري لتقديم تنازلات في ملفات عجزوا عن الحصول عليها في أوقات وظروف سابقة.
لا شكّ في أنّ السوريين يعترفون بما قدّمته روسيا لهم خلال الحرب التي شنّت عليهم، وخصوصاً تصديها للمخططات الأميركية في مجلس الأمن، ولكنهم بالتأكيد لا يشعرون بعقدة النقص تجاه روسيا، ويتبنّون مقولة رئيسهم عندما قال عن دولة قطر: "لا توجد دول صغيرة ودول كبيرة، بل توجد دول لها أدوار كبيرة ودول لها أدوار صغيرة"، كما أنهم يعتبرون أنّ روسيا تدخّلت في الحرب السورية لتحقيق مصالحها الذاتية، قبل أن يكون ذلك التدخل لحماية سوريا أو لمساعدتها.
بالعودة إلى كلام رئيس الوزراء الروسي السابق دميتري ميدفيديف، فقد قال في تصريح لقناة "روسيا 24" بثّته بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2015: "روسيا تدافع عن مصالحها القومية في سوريا"، كما أن هناك الكثير من التصريحات لمسؤولين روس تصبّ في الاتجاه نفسه، بل تصل إلى مرحلة أن يقول أحدهم إن روسيا تدافع عن موسكو انطلاقاً من دفاعها عن دمشق، وهذا صحيح، لأنّنا الآن، ورغم أن روسيا أصبحت عسكرياً على حدود تركيا الجنوبية، نرى أن الأخيرة، وبدعم أميركي وأطلسي، تكاد تصبح على الحدود الروسية من خلال تواجدها في معظم الجمهوريات السوفياتية السابقة، فما بالك لو كانت روسيا في وضعها السابق!
كذلك، يعتبر السوريون أنَّ سوريا هي التي أوجدت لروسيا موطئ قدم في المياه الدافئة وعلى طريق الحرير. ولعل الصمود السوري هو الَّذي دفع روسيا إلى أن تصعد سياسياً وعسكرياً، وتكون قطباً عالمياً يستطيع أن يتصدى للهيمنة الأميركية، الأمر الذي مكّنها من حماية مصالحها الجيوسياسية ومصالحها في تسويق الغاز، لأنَّ المخطط الأميركي -الغربي كان يهدف إلى استبدال الغاز الروسي بغازٍ خليجي يمرّ عبر سوريا وتركيا وصولاً إلى أوروبا الشرقيّة.
ومن المعروف أن الولايات المتحدة الأميركيّة كانت تتدخّل في ما مضى في كلّ مكانٍ بلا موافقةٍ روسيّةٍ، ولم تعر أيّ اهتمامٍ للمصالح الروسيّة. كما يعتبر السوريون أنَّ الوجود العسكري القوي في سوريا مكّن روسيا من فتح خطوطٍ سياسيّةٍ مع العديد من الدول التي كانت تمانع ذلك بضغطٍ أميركي، وبتنا نلاحظ الابتعاد التدريجي للدول الأوروبيّة عن الولايات المتحدة الأميركيّة والاقتراب من روسيا. أضف إلى ذلك اختبار الأسلحة الروسيّة وتطويرها، ومن ثم الدعاية لها، ما حقّق حضوراً متميّزاً لهذا السلاح في الأسواق العالمية.
وما يلفت النظر أن يدلي بعض المسؤولين الروس بتصريحات يراها السوريون في غير زمانها، كأن يقول وزير الخارجيّة الروسيّ إنّ الحرب العسكرية في سوريا انتهت، ما اضطر الرئيس السوري بشار الأسد إلى أن يقول منذ أيامٍ في مقابلة مع وكالة "روسيا سيفودنيا" إنَّ الحرب لم تنتهِ ما دام هناك إرهابيون يحتلّون بعض مناطق بلادنا. كذلك تصريح الرئيس الروسي في مقابلةٍ بثتها قناة "روسيا-1"، أشار خلالها إلى أن الصداقة شيء لا مكان له في عالم السياسات الكبيرة.
نعرف أنَّ مصطلح "سياسات كبيرة" هو مصطلحٌ زئبقيٌّ غايته إيصال رسالةٍ والتنصّل من تبعاتها إن أراد ذلك، ولكنّنا لا نعرف المقياس الذي اعتمده الرئيس الروسي لتقاس على أساسه السياسات، وليتم تصنيفها بين كبيرةٍ وصغيرةٍ. ويبدو أن بعض المسؤولين الروس لم يقرأوا التاريخ بشكلٍ جيدٍ، واعتقدوا أنّهم في سوريا يتعاملون مع مجتمعٍ سطحي ومع حضارةٍ وليدةٍ، ولم يراعوا منطق الأمور الذي يقول إنك لن تكون ناجحاً في المستقبل إذا كنت تجهل الماضي.