السعودية وفلسطين: من الجهاد إلى الشيطنة

وثق الباحث السعودي محمد الأسمري، نقلاً عن مركز المعلومات الفلسطيني، أسماء 155 شهيداً سعودياً من أصل 3200 مُقاتل نظامي ومتطوع شاركوا في حرب فلسطين.

  • الملك عبد العزيز بن سعود يلتقي بالرئيس فرانكلين روزفلت على متن السفينة يو إس إس كوينسي، مصر في 14 شباط/ فبراير 1945
    الملك عبد العزيز بن سعود يلتقي بالرئيس فرانكلين روزفلت على متن السفينة يو إس إس كوينسي، مصر في 14 شباط/ فبراير 1945

وثّق الباحث السعودي محمد الأسمري في كتابه "الجيش السعودي في حرب فلسطين"، نقلاً عن دار الوثائق المصرية، رسالة من قائد الجيش المصري في فلسطين، اللواء أحمد المواوي، إلى قيادته في القاهرة، يُشيد فيها ببسالة الجيش السعودي المُشارك في حرب فلسطين إلى جانب الجيش المصري، وجاء فيها: "أرى أنه من باب المجاملة للدولة الوحيدة التي اشتركت معنا اشتراكاً بجيشها، أن يُكافأ رجالها الذين اشتركوا وامتازوا في الميدان أسوة برجالنا... إنَّ الروح المعنوية السائدة بين هذه القوات روح عالية، فكلهم متشوقون للقتال ومؤمنون بالقضية العربية، يدفعهم إلى ذلك شعور ديني".

هذا الشعور الديني الذي ذكره المواوي في رسالته هو فريضة الجهاد في سبيل الله للدفاع عن فلسطين والقدس؛ الأرض المباركة والمقدسة، أرض الإسراء والمعراج، التي تضم المسجد الأقصى؛ أولى القبلتين وثالث الحرمين. كما وثق الأسمري، نقلاً عن مركز المعلومات الفلسطيني، أسماء 155 شهيداً سعودياً من أصل 3200 مُقاتل نظامي ومتطوع شاركوا في الحرب.

هذا الدافع للجهاد من أجل تحرير فلسطين وحباً بها، يحاول النظام الحاكم السعودي عبثاً بعد سبعة عقود من حرب فلسطين أن يزرع مكانه شيطنة فلسطين القضية والشعب والمقاومة. وما بين الجهاد لتحرير فلسطين وشيطنة فلسطين مساحة زمنية وتحوّلات جوهرية.

استمرت المملكة العربية السعودية بقيادة آل سعود بدعم القضية الفلسطينية ودول الطوق ضد الكيان الصهيوني - على الأقل في العلن - انسجاماً مع إرادة الشعب العربي المسلم في الجزيرة العربية، المُحب لفلسطين والقدس والأقصى، فكما وقفت المملكة مع فلسطين في حرب النكبة في العام 1948م في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز بن سعود، وقفت مع مصر أثناء العدوان الثلاثي في العام 1956م في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز، فقدمت لها الدعم المالي، واستضافت الطائرات المصرية المحتمية من القصف في مطاراتها لحمايتها. 

وبعد النكسة في العام 1967م، قدّمت المملكة في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز أموالاً ضخمة لمصر لتعويض خسائر الحرب. أما في حرب أكتوبر 1973م، فأمر الملك فيصل باستخدام سلاح النفط للضغط على الدول الغربية الداعمة للكيان الصهيوني، وأرسل قوات عسكرية لمساندة الجيش السوري في جبهة الجولان.

وعندما خرج الرئيس المصري أنور السادات عن الإجماع العربي ضد الكيان الصهيوني، وعقد اتفاقية كامب ديفيد معه في العام 1978م، وأخرج مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، كانت المملكة بقيادة الملك خالد بن عبدالعزيز في طليعة الدول العربية التي قاطعت مصر، للضغط على نظامها الحاكم للعودة إلى الإجماع العربي، وتصويب سياساتها تجاه فلسطين.

لم يمر زمن طويل على خروج مصر من الصراع والإجماع العربي، وبتعبير الشاعر العراقي أحمد مطر، "فرار الثور من الحظيرة"، حتى بدأ العرب يشقون طريقهم خلف الثور الهارب من الحظيرة، فلم يرجع الثور، ولكن ذهبت الحظيرة وراءه. وبما أنَّ "أول الرقص حنجلة"، جاءت المبادرة السعودية للسلام في العام 1981م، المعروفة بمبادرة الأمير فهد، لتكون أول حنجلة العرب، والتي أعطت صاحب البيت ثلثه، وأعطت مغتصبه الثلثين. 

وكانت حنجلة صاحب البيت سلسلة من التنازلات انتهت باتفاقية أوسلو في العام 1993م، والتي جعلته يرضى بالعيش تحت سلطة مغتصب البيت. وطبّق العرب المثل القائل: "إن كان صاحب البيت بالدف ضارباً، فشيمة أهل البيت الرقص"، فرقصوا على إيقاع موسيقى سلام الشجعان التي كان يعزفها أبو عمار من سجن المقاطعة في رام الله، وحوّلوا المبادرة السعودية للسلام إلى المبادرة العربية للسلام في قمة بيروت في العام 2002م، والتي سجلوا فيها براءة اختراع نظرية "الأرض مقابل السلام".

ومع عوامل التعرية القومية بفعل رياح التغيير القادمة من الشمال الغربي، تآكلت الأرض ولم يبقَ إلا السلام، مُضافاً إليه رمال التطبيع التي ألقتها رياح التغيير الشمالية الغربية، فتكوّنت نظرية جديدة هي "الحماية مقابل السلام والتطبيع"، ولا زال العمل جارياً على تطوير النظرية لتنسجم مع إرادة سيد البيت الأبيض الجديد وصفقة قرنه، ولتتوّج إنجازات بطلي الحرب على اليمن والسلام على "إسرائيل" - ابن سلمان وابن زايد - فيتطور التطبيع إلى تحالف. وقد كانت سياسة شيطنة فلسطين، القضية والشعب والمقاومة، ممراً إجبارياً للاعتراف بالكيان والسلام والتطبيع معه، وصولاً إلى التحالف.

شيطنة فلسطين - القضية والشعب والمقاومة - كسياسة منهجية موجهة من السلطة السعودية العُليا، واتخاذها ممراً إجبارياً للسلام والتطبيع مع العدو، وربما التحالف معه، يهدفان إلى إزالة حضور فلسطين من عقول السعوديين وقلوبهم، ومحوها من ذاكرتهم ووجدانهم، وإزالة الحاجز النفسي المانع لارتكاب جريمة الصلح مع الكيان وإدارة الظهر لفلسطين، وإيجاد مبرر أخلاقي يسمح بالتخلّص من عبء القضية الفلسطينية الثقيل الذي يقف عائقاً أمام تنفيذ إرادة سيد البيت الأبيض، وإماتة الضمير المُسبب للشعور بالذنب بعد الوقوف مع الجلاد الإسرائيلي ضد الضحية الفلسطيني. 

ولذلك، كانت شيطنة فلسطين عبر الإعلام والدراما استحقاقاً مفروضاً يتم بموجبه استبدال الصورة النمطية الإيجابية لفلسطين - القضية والشعب والمقاومة - الجامعة بين صورتي الضحية والبطل، وبين مأساة الاحتلال وبسالة المقاومة، وبين معاناة اللجوء وعنفوان الثورة، لتكون الصورة النمطية سلبية تقوّض عدالة القضية، وتشيطن صورة الشعب، وتُجرّم نضال المقاومة، فالقضية مجرد تجارة في أيدي القادة، والشعب باع أرضه ونكر الجميل، والمقاومة تعمل وفق أجندة خارجية لحساب إيران وتركيا والإخوان المسلمين... وهو ما من شأنه خلق حالة من العدائية والكراهية لكل ما هو فلسطيني، ولا عجب بعد ذلك إن تم الترويج لشعار "فلسطين ليست قضيتي" في أوساط العرب الخليجيين، وخصوصاً السعوديين، ولا عجب بعد شيطنة الفلسطيني من الذهاب نحو أنسنة الجلاد الإسرائيلي.

أنسنة الإسرائيلي في وسائل الإعلام والدراما السعودية والخليجية هي الوجه الآخر لشيطنة الفلسطيني، ومفهوم الأنسنة كمقابل للشيطنة يعني إضفاء الصفات الأخلاقية الإنسانية على الإسرائيلي، بمعزل عن كونه مُحتلاً ومغتصباً للأرض، ومُهجّراً ومُشرّداً للشعب، وبتجاهل لحقيقة "دولة إسرائيل" ككيان قائم على أرض الشعب الفلسطيني، وكيان عسكري استيطاني إحلالي عنصري إرهابي قام بالعنف، ويرتبط استمرار وجوده بإدامة العنف. 

إضفاء الصفات الإنسانية على اليهودي الصهيوني الإسرائيلي وكيانه، هدفه تغيير الصورة النمطية الشريرة للإسرائيلي، المرتبطة بالعدوان، إلى صورة نمطية إيجابية جديدة ترسم صوراً مختلفة للإسرائيلي الفرد كإنسان عادي وطيّب ومتفوّق، وللإسرائيلي الشعب كأمة مظلومة مكافحة من أجل البقاء، تستحق الحياة في وطنها "إسرائيل".

ولاستكمال أنسنة الإسرائيلي كعدو سابق، لا بد من إعادة تعريف العدو، فعندما لا تعود فلسطين قضية السعوديين، لا تبقى "إسرائيل" عدواً لهم، بل يصبح العدو هو الشعب الفلسطيني الناكر للجميل "اللي ما يقدر وقفتك معاه ويسبك ليل نهار". وبذلك، بعد شيطنة الفلسطيني وأنسنة الإسرائيلي، تصبح الطريق ممهدة للوقوع في هاوية التطبيع والتحالف مع الكيان الصهيوني.

انتقال النظام السعودي الحاكم بقيادة ثنائي استبداد آل سعود السياسي وتطرف آل الشيخ الديني من صورة الجهاد لتحرير فلسطين المُشرقة إلى صورة شيطنة فلسطين المُظلمة، كان نتاج مسيرة تحالف شريرة بين السلطتين السياسية والدينية، تولى كبرها الأمير والشيخ، وأنتجت فكراً تكفيرياً دموياً وزّع "المجاهدين" على شتى بقاع الأرض التي يريدها الأميركيون، فسقط على هذه الطريق المليئة بالشبهات آلاف الشباب السعوديين، وذهبوا قرابين بشرية على مذبح تضليل وإرادة الأميركيين، ابتداءً من أفغانستان، وانتهاءً بسوريا، ومروراً بالشيشان والصومال، وغيرها الكثير، في حروب عبثية ومعارك وهمية لا ناقة للأمة فيها ولا جمل، وبقي عشرات الشهداء السعوديين الذين ارتقوا دفاعاً عن الأقصى والقدس وفلسطين بقعة صغيرة ناصعة البياض في ثوب كبير حالك السواد، ولكن البقعة حتماً ستكبر وتتسع، حتى تملأ الثوب كله بياضاً، وتُبدد سواده الحالك {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا}.