في ذكرى شهادته: الحاجة كبيرة لفكر غيفارا ومنهجه
صراع حاد اندلع بين قوى السيطرة وقوى التحرر، وأثمان باهظة لا تقدر بثمن دفعت في حروب التحرر الوطني.
تحلّ ذكرى استشهاد الثائر الأممي تشي غيفارا والعالم يعيش أزمة وجود وضياعاً ومتاهة مصير. وفيما يتراجع مسار قوى العدوان المستديم عالمياً، تجدّد هذه القوى هجومها وعدوانيَّتها نحو المزيد من التخريب والتوتير. تتقدَّم البربرية، وتتراجع الإنسانيَّة.
وفي المناسبة، نرى أنَّ العالم يخضع لمسارين متعاكسين ومتناقضين بغرابة؛ المسار الغربي الهجومي الطابع، رغم تراجع محوره بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على صعد مختلفة، والمسار الشرقي الدفاعي، رغم طابع أوضاعه التصاعدية منذ أن بدأ بالعودة إلى السّاحة الدولية عقب انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السّوفياتي.
مسار المحور الغربيّ هجوميّ الطّابع ومتجدّد في هجومه بعد تراجع ملحوظ، فمن المعروف كم لحق بالولايات المتحدة وحلفائها من خسائر أعقبت سيطرتها التامة على العالم يوم بات وحيد القرار. شنَّت الولايات المتحدة وتحالفها حروباً في أكثر من منطقة في العالم، وخصوصاً في الشرق، أبرزها حروب العراق وأفغانستان. تفوَّق الغرب عسكرياً بما لا يقاس مع بقية القوى في مواجهته، ثم جوبه بمقاومة شعبية اضطرته إلى الانكفاء، سواء في العراق أو في أفغانستان.
حاول الغرب تغيير وجهته، فاعتمد العمليات العسكرية الخاطفة على الطريقة التي يتقنها الإسرائيليون، كما اعتمد الحروب الناعمة، كتحريك الشعوب في ما عرف بلقب "الربيع"، أو بالحرب الاقتصادية عبر السيطرة بالدولار، أو بالحروب بالوكالة كما يجري في اليمن، وربما أواسط آسيا أيضاً.
المقاومة التي دفعت المحور الغربي إلى التراجع، أظهرت ضعفاً في موقعه الهجومي، فاقم ذلك خسارة رهانه على "الربيع"، وخسارته في غير ساحة، وخصوصاً في سوريا، وعجزه عن الحسم في اليمن.
في هذه الآونة، دخلت دول الشرق في الصراع، كإيران وروسيا، بتحالف مع الصين، وبدأت بالتصدي للتقدم الغربي ولجم اندفاعاته، وتشكل في الصراع محور مجابه متصاعد القوة على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية.
ورغم تصاعده وبلوغ بعض قواه مراحل متقدمة على الصعد العسكرية، كروسيا وإيران، وعلى الصعيد الاقتصادي كالصين، فقد اتخذ هذا المحور موقع الدفاع. صار العالم في ظلال هجوم غربي متفاقم ودفاع مشرقي متردد، رغم تصاعده.
في مراحل مختلفة من القرن الماضي، لم يشهد العالم هذا التأرجح بين محورين. اتخذت المجابهات نزعة هجومية في شرق آسيا، عندما حاولت الصين التحرر من السيطرة اليابانية، ثم الأميركية غير المباشرة، فشنت حرباً شعبية ضروساً استمرت زهاء ثلاثين عاماً قبل تحقيق النصر.
تكرر المشهد في حرب فييتنام بعد الحرب العالمية الثانية، فكانت المجابهة بين الفييتناميين والفرنسيين أولاً، ثم مع الولايات المتحدة الأميركية التي ورثت تركة الاستعمار الفرنسي -البريطاني الذي خرج منهك القوى في الحرب.
شهد الصراع حماوة منقطعة النظير، وجهتها النصر الساحق من دون تردّد ولا هوادة. سطرت في هذه الحروب أكبر بطولات التحرر الشعبي، ودفعت مختلف القوى المنخرطة فيها الأثمان الباهظة، لكن شعوب الصين وفييتنام وكمبوديا وسواها حققت انتصارات نهائية أراحتها من احتمالات حروب تالية.
على المقلب الآخر من الكرة الأرضية، وفي جزيرة كوبا الصغيرة مقارنة مع الجبار الأميركي، كان فيديل كاسترو وأرنستو تشي غيفارا يقودان حرباً غير متكافئة للتحرر من السيطرة الأميركية، يحدوهما إيمان ثوري راسخ، معادلته النصر أو الموت.
خلفية هذا الطابع الحاسم من الصراع كانت انتصار الثورة الروسية، وظهور قيم الثورة الحديثة بطريقة جلية، وتشكل حركات التحرر الوطني على خلفية إيديولوجية ثورية متناقضة بشكل قاطع مع الرأسمالية.
صراع حاد اندلع بين قوى السيطرة وقوى التحرر، وأثمان باهظة لا تقدر بثمن دفعت في حروب التحرر الوطني، فتدمَّرت فييتنام، وأحرقت مراراً، وكذلك كمبوديا، ودفعت الصين الأثمان الباهظة بشرياً واقتصادياً، ولم يكن وضع كوبا أحسن حالاً. لم يكن طابع الصراع بين قوى نقيضة يتيح الفرصة لمساومات الربح والخسارة، وخصوصاً لدى دول فقيرة مفلسة ليس لديها ما تخاف عليه. كان أمامها خيار واحد بين الموت والحياة. لم تهادن، ولم تتوانَ عن دفع الغالي والرخيص.
الصراع اليوم مشوب بطابع آخر؛ هجوم غربي متجدّد، كأنه أمام خيار الموت والحياة، استراتيجيَّته محاصرة الدول الصاعدة في الشرق، بلوغاً إلى الصين - الهدف الاستراتيجي للهجوم الأميركي - التي تتقدّم اقتصادياً بما يجعل قيادة الغرب قلقة على اقتصادها القومي، وتعتبره "تهديداً لأمنها القومي"، بحسب تصاريح قيادات أميركية، وذلك وفق خبير الاقتصاد طلال أبو غزالة، الذي يرى أن الصين تتقدم لصدارة العالم اقتصادياً، وباتت تشكل 35% من الناتج القومي العالمي، بينما تشكل الولايات المتحدة الأميركية 17% فقط منه. معادلة تقضّ مضجع الغرب الإمبريالي، وتهدّد دوره وتصدّره لزعامة العالم.
وفي الوقت عينه، تتنامى روسيا وإيران تقنياً وعسكرياً، وعلى قدر أهل العزم اقتصادياً، لكن دول المحور الشرقي المتصاعدة القوة تتخذ طابع الدفاع، خلافاً لكوبا والصين وفييتنام في القرن العشرين. ليس الصراع الحالي حاداً بمستوى التناقض الإيديولوجي، نظراً إلى طبيعة القوى المنخرطة فيه، بقدر ما يعد طابعه صراعاً على التقدم نحو صدارة العالم. لذلك، يجد المحور الغربي نفسه أمام خيار وحيد، وهو تجديد الهجوم والتصعيد قبل خسارته الوجودية المستقبلية.
في سياسة النزعة الانتظارية وهجوم القوى المتراجعة، وحيث يعيش العالم حال مراوحة، فيغيب الحسم، وتستمر الإنسانية بتحمل الأثمان الباهظة، على قوى التحرر استلهام الروح الثورية الجذرية الحاسمة، ورمزيتها "تشي غيفارا"، إنقاذاً للبشرية من قوى العدوان المستديم.