الانطلاقة الجهادية.. رؤية لمستقبل وطن

استشرف فتحي الشقاقي حتمية فشل اتفاقية أوسلو، وأنها ستُكرس الاحتلال، وتزيد الاستيطان، وستمهد للانقسام والتطبيع، وستعمق معاناة الشعب الفلسطيني، فاحتجنا بقراءتنا الخاطئة ربع قرن لنتأكد من مصداقية تلك الرؤية لمستقبل أوسلو.

  • الانطلاقة الجهادية.. رؤية لمستقبل وطن
    الانطلاقة الجهادية تعني إعلان بداية مرحلة جديدة من تاريخ الشعب الفلسطيني

حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين هي حركة فلسطينية إسلامية مقاتلة تبلورت في مطلع الثمانينيات، بعد أن كانت حواراً فكرياً اشتركت فيه مجموعة من الشباب الفلسطيني المتدين المثقف أثناء دراستهم في مصر. وبعد سنوات قليلة، أي 1984 – 1985 تقريباً، انتقلت الحركة إلى مرحلة ثانية ومستوى آخر في نضالها، أي إلى الكفاح المسلح والجهاد المسلح ضد العدو الصهيوني. 

في العام 1986 - 1987، وهو العام الذي سبق انطلاقة الانتفاضة، قامت حركة الجهاد الإسلامي بعمليات عسكرية نوعية مهَّدت لها بشكل مباشر. وفي نهاية العام 1987، دخلنا والشعب الفلسطيني والأمة العربية المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الانتفاضة. ما سبق جاء في مجلة "النداء" الإيرانية في كانون الثاني/ديسمبر 1991، على لسان مؤسس حركة الجهاد، المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، ووثقه الدكتور رفعت سيد أحمد في كتابه عن حياة الشقاقي بعنوان "رحلة الدم الذي هزم السيف". 

حركة الجهاد الإسلامي في عهد أمينها العام الثاني الدكتور المجاهد رمضان شلّح، اختارت أن تُحيي ذكرى انطلاقتها الجهادية في السادس من تشرين الأول/أكتوبر، وهو التاريخ الذي اعتبره الشقاقي انطلاقة الانتفاضة في العام 1987، عندما استشهدت مجموعة من مُجاهدي الحركة في حي الشجاعية في غزة، تضم الشهداء مصباح الصوري ومحمد الجمل وزهدي قريقع وأحمد حلس وسامي الشيخ خليل، الذين اشتبكوا مع قوات العدو بعد قيامهم بعدد من العمليات الفدائية تلت هروبهم من سجن غزة المركزي.

وقد أشعل دمهم فتيل الانتفاضة في السادس من تشرين الأول/أكتوبر في قطاع غزة، والتي استمرت بالتصاعد حتى انفجرت بقوة، وامتدت إلى الضفة الغربية في التاسع من كانون الأول/ديسمبر، إثر حادث المقطورة الذي أودى بحياة عدد من العمال الفلسطينيين، فكان اختيار هذا التاريخ تزامناً مع انطلاقة انتفاضة الحجارة، تعبيراً عن رؤية الحركة في اعتبار انطلاقتها الحقيقية يوم تحوّل فعلها الثوري الجهادي وعملها العسكري التنظيمي إلى حالة مقاومة شعبية شاملة، واعتزازها بمساهمتها من خلال فكرها الثوري وعملياتها الجهادية في إيجاد بيئة ثورية مهدت لانطلاق الانتفاضة الجماهيرية الأولى (انتفاضة الحجارة). 

الانطلاقة الجهادية بهذا الفهم ليست مجرد إعلان قيام حركة سياسية فلسطينية جديدة، بل إعلان بداية مرحلة جديدة من تاريخ الشعب الفلسطيني ساهمت في صناعته حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، التي قدمت إضافة نوعية إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، لخّصها مُبدع الفكرة والحركة بقوله: "لقد جاءت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين حلاً للإشكالية القائمة، حيث وطنيون بلا إسلام، وإسلاميون بلا فلسطين... الإسلام منطلقها، وفلسطين هدفها، والجهاد وسيلتها".

فأنهى بذلك الفصام النكد بين الحركة الإسلامية والحركة الوطنية، عندما جمع بين الإسلام وفلسطين، وزاوج بين القرآن والبندقية، ودمج بين الإيمان والوعي والثورة، وجعل الوطنية في صلب العقيدة، واعتبر الإسلام روح العروبة، فأجاب بذلك على السؤال الفلسطيني إسلامياً، والسؤال الإسلامي فلسطينياً، فاكتشف كلمات السر التي أبدعت الحركة: الإسلام وفلسطين والجهاد، فكانت حركة وطنية بمرجعية إسلامية أو حركة إسلامية قضيتها المركزية وطنية، وقدّم رؤية تجديدية داخل الحركة الإسلامية والفكر الإسلامي في مختلف القضايا المعاصرة. 

الإضافة النوعية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين إلى الحركة الوطنية الفلسطينية لم تقتصر على حل إشكالية الفصام بين الإسلاميين والوطنيين، ولكن في رؤيتها المستقبلية لتحرير فلسطين، فقد حملت في رحم انطلاقتها رؤية لمستقبل وطن؛ رؤية انبثقت من قراءة واعية للتاريخ، وفهم موضوعي للواقع، كمدخل للتأثير في الحاضر وامتلاك المستقبل، فالتاريخ يبدأ من غار حراء عندما انطلقت الثورة الإسلامية الأولى بقيادة الرسول الأعظم محمد بن عبدالله (ص) في صراعها مع الباطل، وامتد عبر التاريخ في محطات عديدة، كان آخرها التحالف الصليبي الصهيوني، عندما أفرز المشروع الاستعماري الغربي المشروع الصهيوني كإفراز لحضارة عنصرية تحمل بذوراً دينية خبيثة مُحملة بأكاذيب الوعد الإلهي وأرض الميعاد والشعب المختار والألفية السعيدة...

فأنبتت شجرة الكيان الصهيوني الخبيثة مركز المشروع الاستعماري الغربي ورأس حربته ضد الأمة العربية والإسلامية وأهم ركائزه في السيطرة على الأمة. 

هذا الفهم لطبيعة الكيان الصهيوني، وعلاقته الإيديولوجية والعضوية بالمشروع الاستعماري الغربي، يؤدي بالضرورة إلى نتيجة تُخطّئ الفرضية التي قامت عليها عملية "التسوية السلمية" التي انطلقت من اتفاقية أوسلو وما قبلها، والقائمة على إمكانية الحصول على جزء من فلسطين والحق الفلسطيني، استناداً إلى الضغط الدولي أو العدالة الدولية أو الشرعية الدولية، فالضغط الدولي (الغربي) يُمارس فقط على الخارجين على بيت الطاعة الأميركي، والعدالة الدوليّة تُطبق على الضعفاء فقط، والشرعية الدولية هي التي أوجدت "إسرائيل".

وبهذا الفهم لطبيعة الكيان والغرب، استشرف الشقاقي حتمية فشل اتفاقية أوسلو، وأنها ستُكرس الاحتلال، وتزيد الاستيطان، وستمهد للانقسام والتطبيع، وستعمق معاناة الشعب الفلسطيني، فاحتجنا بقراءتنا الخاطئة ربع قرن لنتأكد من مصداقية تلك الرؤية لمستقبل أوسلو. هذه الرؤية للحركة هي جزء من رؤية أوسع تتعلق برؤية نهاية الصراع في فلسطين وحتمية النصر على الكيان الصهيوني والمشروع الغربي كله. 

رؤية نهاية الصراع في فلسطين ترتبط بتدمير العلو والإفساد الإسرائيلي بعد هزيمة "إسرائيل" وزوالها من الوجود، كحتمية قُرآنية مستوحاة من وعد الآخرة الذي سيدخل المسلمون بموجبه المسجد الأقصى على يد "عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ"، الذين سيسوؤون وجوه بني إسرائيل، ويتبرون علوهم، وينهون إفسادهم، وهذا يحدث بعد اكتمال دائرة ضعف الكيان وتفككه مع دائرة قوة الأمة ووحدتها. وحتى يأتي وعد الله، والشعب الفلسطيني ظاهر على الحق، لا يضرّه المستسلمون والمتخاذلون والمطبّعون، لا بدّ من أن يقوم بدوره في النصر، وهو إبقاء جذوة الجهاد مشتعلة في فلسطين، ولا بد من استمرار مشاغلة الكيان واستنزافه ومواصلة المقاومة ضده، لمنع استقراره وزعزعة أمنه وتعميق مأزقه الأمني والوجودي، ولمنع هزيمة الأمة والعمل على استنهاضها، والمحافظة على روحنا أن لا تنكسر، ونفوسنا أن لا تنهزم، وهويتنا أن لا تندثر، ووجودنا أن لا ينتهي. 

انطلاقة الجهاد ليست رؤية لمستقبل وطن فقط، بل مستقبل أمة قلبها فلسطين، وارتبط مصيرها علواً وهبوطاً بفلسطين، فتعلو الأمة بقوتها ووحدتها ونهضتها واستقلالها عندما تكون فلسطين حُرة، وتهبط الأمة بضعفها وتفرقها وتأخرها وتبعيتها عندما تكون فلسطين أسيرة، كما هي أسيرة اليوم تحت حراب علو وإفساد الكيان الصهيوني، رأس حربة المشروع الغربي الاستعماري. 

هذا العلو والإفساد سيُدَمر وتزول دولته، استناداً إلى حقائق الإسلام القرآنية والنبوية المؤيَدة بسنن التاريخ ومعطيات الواقع، وهذا اليقين لا ينبغي أن يحوّلنا إلى طوابير منتظرة على أرصفة التاريخ وهوامش الفعل، بل ينبغي أن يستفزنا لمزيدٍ من العمل، للأخذ بأسباب النصر وامتلاك مفردات القوة كتكليف إلهي، وأن نقوم بدورنا كشعب فلسطيني وطليعته المقاومة في إنجاز النصر، بمواصلة الثبات على التمسك بالحقوق، والصمود داخل الوطن، والمقاومة ضد الاحتلال، حتى يأتي وعد الآخرة بالنصر، ونحن كذلك، كي نسلم علم فلسطين من النهر إلى البحر وراية الثورة الناصعة إلى الجيل الصاعد، ليواصل طريق الإيمان والوعي والثورة، محتضناً في صدره الإسلام وفلسطين والمقاومة، رافعاً القرآن بيده والبندقية باليد الأخرى، حتى يحط رحاله في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}.