الهندسة السكّانيّة لمصر: بين سيناء وسدّ النهضة ومناخات قناة السويس (1859-1869)
تشكّل كلّ من الأرض والمياه والوعي بأهميتهما في السياقات الجيوستراتيجية مصدراً مهماً في قوة الأمم والدول ومنعتها، فقد جاء في كتاب آدم سميث (1723-1770) "ثروة الأمم" شرح لأهمية الأرض في السياقات السياسية والاجتماعية المختلفة. أما أنطون سعادة (104-1949) في كتابه "نشأة الأمم"، فقد عدّ "الأرض شرطاً أوّلياً للحياة، فلا شكّ في أنّها إذاً شرط أوّليّ لوجود النّوع الإنسانيّ وبقائه"، بل ذهب أبعد من ذلك حين اعتبر أنَّ الحفاظ على الأرض يتطلب مجتمعاً علمانيّاً، بدليل قوله: "اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض"، أي أنَّ الصّراعات الدينيّة ضياع للحياة كلّها. ومريم العذراء في السريانيّة هي "سيدة المياه"، وجاء في القرآن: {وجعلنا من الماء كل شيء حيّاً}(سورة الأنبياء: 30).
سيناء منطقة عازلة ووكر للإرهابيين
يمكن القول إنَّ مجرى مياه النيل هو الَّذي شكّل الخارطة السكانيّة لمصر، وعليه استقرت لآلاف السنين. أما سيناء، فقد شكّلت حاجزاً أمام الغزوات القادمة من غرب المتوسط وجنوب فلسطين أحياناً، وهي التي لا تزال تغري الأعداء من يهود واستعماريين بتحييدها وتحويلها إلى منطقة عازلة، كما حدث في كامب ديفيد (1979)، ثم إلى خنجر سام في الخاصرة المصرية، بزرعها لهم بمفخخات اللصوص وقطاع الطرق وتجار المخدرات والنساء والإرهابيين.
شكّل كلّ من شبه جزيرة سينا ومياه النيل ملفاً واحداً في الصراع العربي-اليهودي. وقد ظهرت بواكيره في نهاية القرن التاسع عشر 1898، عندما اقترحت الحكومة الإنجليزية على اليهود منحهم كياناً في شمال سيناء والعريش. وفي العام 1903، انطلقت بعثة مشتركة منهم لفحص الموضوع على أرض الواقع مع الحكومة المصرية، لكن حكومة الخديوي عباس حلمي (1900-1917) التي وافقت في بداية الأمر، عادت وتراجعت بعد ذلك، لأن الكيان اليهودي الوليد من شأنه أن يستهلك حصَّة من مياه النيل. بكلمات أخرى، أصبح العبث بمياه النيل هدفاً لدى اليهود والاستعماريين.
قامت "إسرائيل" أثناء النكبة (1948) بطرد مئات الآلاف من اللاجئين من منطقتي يافا وبئر السبع إلى قضاء غزة. وفي العامين 1951-1953، عملت أميركا والأونروا على استئجار مساحة تقدر بـ600 كلم مربع من شمال سيناء والعريش لتوطين اللاجئين فيها، إلا أن نضال الغزيّين في العام 1955 بقيادة الشيوعيين أفشل المشروع.
وبعد احتلال العام 1967 بعامين، خطَّطت "إسرائيل" في العام 1969 لتهجير 60 ألف فلسطيني إلى الباراغواي، و50 ألفاً آخرين إلى منطقة العريش المصريّة. تكرر هذا الاقتراح، وكان آخر مرة في عهدي الرئيسين مرسي والسيسي.
عندما لم تتمكَّن القوى الاستعمارية من ثني مصر الناصرية عن العدول عن قرارها بتأميم قناة السويس في 26 تموز/يوليو 1956، أقدمت كلّ من فرنسا وبريطانيا و"إسرائيل" على احتلال شبه جزيرة سيناء خلال عدوان وقع في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1956، في ما أطلق عليه "العدوان الثلاثي".
وبعد ضغوط دوليّة، انسحب المعتدون في آذار/مارس 1957. وبعد 3 سنوات، أقدمت مصر على عقد اتفاقية مع الاتحاد السوفياتي على بناء السدّ العالي الذي تم بناؤه في العام 1968. وتم بناء طوربينات إنتاج الكهرباء في العام 1971. يُشار أيضاً إلى أن السدّ العالي أنقذ بعض مناطق مصر من دمار سببه فيضان النيل الأزرق في العام 2020، الأمر الّذي سبَّب الدمار في السودان، لعدم اهتمام أحد فيه بالأضرار التي قد تنجم عن فيضان النيل.
وفي عدوان "إسرائيل" في حزيران/يونيو 1967، احتلّت شبه جزيرة سيناء، وانسحبت منها في العام 1981، نتيجة اتفاقيات "كامب ديفيد" التي أبقت عليها "منطقة عازلة" يُحظر التواجد المصري فيها إلا بشروط توافق عليها "إسرائيل"، حتى باتت مأوى لقطاع الطرق والمهربين وتجار المخدرات والنساء والإرهابيين، وصارت تشكّل عبئاً على الجيش المصري في السنوات التي تلت الانقلاب على الرئيس مبارك في العام 2011، فالجيش الذي قيض له أن يكون عماد معركة تحرير فلسطين ووحدة الأمة، يتم استزافه اليوم في رمال سيناء التي قد تدفنه، إن لم تعد نخبها، مثل محمد علي وابنه إبراهيم وجمال عبد الناصر، وتدرك أن الشام، رغم شخيب دمها، هي المُنقذ لها ولمصر.
النيل بين السدّ العالي و"زمزم الجديد"
تجاوزت مصر الناصرية مقولة "النيل هبة مصر"، ليصبح النيل مُحركاً من محركات التنمية والسيادة المصريّة، عندما أقدمت على بناء السدّ العالي بالاتفاق مع الاتحاد السوفياتي، وحوّلته إلى مصدر لإنتاج الطاقة الكهربائية وتطوير الزراعة وتربية الأسماك في بحيرة ناصر، أي الإسهام في تأمين الأمن الغذائي لدولة نامية.
كنت قد أشرت في السابق إلى رفض الخديوي عباس حلمي إقامة كيان يهوديّ في شمال سيناء والنقب، لأن اليهود كانوا يطمعون في مياه النيل. كان هذا في العام 1903. رغم ذلك، بقيت مياه النيل في دائرة الاستهداف اليهودي، فبعد عدة أشهر من حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، تقدم مهندس المياه، إليشع كالي (1926-2000)، مدير التخطيط الطويل المدى في شركة "ناحال" في العام 1974، بمشروع لجرّ مياه النيل إلى "إسرائيل" بعنوان "مياه السلام"، جاء فيه: "إنَّ تنفيذ المشروع لا يتطلب ظروفاً سياسية مؤاتية مثل هذه الظروف السائدة الآن. توجد دول كثيرة مستعدة للمتاجرة في مورد طبيعي، حتى مع دول معادية، مثل الصين التي تبيع المياه لعدوتها هونغ كونغ، وتستطيع مصر الآن أن تبيع المياه لإسرائيل كي تزرع القطن" (بالمناسبة: كالي يفهم بالتاريخ مثل خريجي مدارس الأحد وتحفيظ القرآن)، ثم عاد المشروع إلى العلن مرة أخرى في محادثات "كامب ديفيد" في العام 1978، كما ورد في "معاريف" في 27 أيلول/سبتمبر 1978.
وفي محادثات كامب ديفيد (1979)، عاد اليهود للحديث مرة أخرى عن مياه النيل، لجرّ 1% (حوالى 8 ملايين متر مكعب سنويّاً) من مياهه إلى كيانهم، عبر أنابيب تمر تحت قناة السويس لري صحراء النقب.
وفي خطاب للرئيس السادات في حيفا، وعدهم بأن تصل مياه النيل إلى القدس. كيف لا وهو "الرئيس المؤمن"! بعدها، أرسل كتاباً إلى الإرهابي (بيجين 1913-1992) يقول له فيه: "إننا شرعنا في حلّ شامل للمشكلة الفلسطينية، وسوف نجعل مياه النيل مساهمة من الشعب المصري باسم ملايين المسلمين، كرمز خالد وباقٍ على اتفاق السلام. وسوف تصبح هذه المياه بمثابة مياه زمزم لكل المؤمنين أصحاب الرسالات السماوية في القدس، ودليل على أننا رعاة سلام ورخاء لكل البشر".
تم نشر ذلك في مجلة "أكتوبر"، لسان حال الحزب الوطني الحاكم، في عددها بتاريخ 16 كانون الثاني/يناير 1979، تحت عنوان "مشروع زمزم الجديد"، الأمر الذي أثار حفيظة الرئيس الإثيوبي منجستو هايلي ميريام في مد "إسرائيل" بمياه نهر النيل، فخرج قائلاً: "هناك مناطق فقيرة في حوض النيل الأزرق أكثر احتياجاً إلى مياه النيل من إسرائيل، ولها الأولوية في مدها بالمياه".
وفي العام 2011، هدد السياسي اليهودي من أصل روسي (لبرمان) في اجتماع جمعه بسفراء الدول المُستقلة (عمن؟) بتفجير السدّ العالي. (المناسبة: بين السادات وبيجين رسائل عديدة ومثيرة عن زمزم الجديد).
إثيوبيا وسدّ النهضة
الخلاف المصري على توزيع مياه النيل وخطة إثيوبيا ببناء سدّ عليه، ليس الخلاف الأول والمحاولة الأولى، فقد بدأت الخلافات منذ بداية القرن التاسع عشر... وفي ستينيات القرن الماضي، تمّ تجاوزها باتفاقيات مع دول المنبع ودول المصب، كان آخرها اتفاق 1958، وأعتقد أن التفكير في "مشروع زمزم الجديد" لمصر الساداتيّة (الانفتاح والخصخصة وأميركا - 1974) دعا العديد من القوى إلى استغلال مياه النيل في تأجيج الصراع الإثيوبي - المصري، وإضعاف مصر، وإخراجها من دائرة الصراع العربي - اليهودي.
وتحولت مياه النيل إلى سلاح ضد شعب مصر، وبدأت إثيوبيا بالتخطيط لسدّ النهضة في سبعينيات القرن الماضي، أي قبل نصف قرن تقريباً، لكنَّ أياً من قادة مصر لم يدرك ما يدور حوله من صراعات لإذكاء الصراع بين الجارتين وبناء السدّ لخنقها وإعادة هندستها سكانيّاً...
وفي تموز/يوليو 2020، بدأت إثيوبيا بملء السدّ من دون أي اتفاق مع مصر أو السودان المُتضررة منه أيضاً، لكنها تميل إلى الموقف الإثيوبي... وبما أننا ذكرنا الخصخصة، يشير بعض خبراء السكان والصحة في مصر والخارج في نهاية الألفية الثانية إلى أنّ الجهاز الصحّي المصري لو بقي الآن (سنة 2000) كما كان في زمن عبد الناصر، لتضاعف عدد سكانها. نفهم من هذا أن منظري الخصخصة خططوا لخفض عدد المصريين، وخصوصاً إذا علمنا أن الجمعيات الدوليّة المختلفة غزت الصعيد، والنجوع المصرية تكرز بأهمية تحديد النسل، وتوزع حبوب منع الحمل على النساء.
سدّ النهضة: ملايين الفلاحين ومناخات السويس
يُمكن فهم تداعيات سدّ النّهضة وما يُراد منه من خلال ورقة السياسات ( (“Nile Conflict: Compensation Rather Than Mediation: How Europeans Can Lead an Alternative Way Forward”), 11, March 2020/ صراع النيل: التعويض بدلاً من الوساطة (2020)، الّتي أعدَّها "المعهد الألماني للشؤون الدوليّة والأمنيّة" المرتبط بوزارة الخارجية الألمانية.
وتشمل الورقة العناصر التالية:
1- يوفّر النيل 90% من احتياجات مصر المائيّة.
2- ينبع حوالى 86% من المياه التي تصل إلى السدّ العالي من إثيوبيا.
3- إذا حدث نقص شديد في مياه النيل لمصر، فإن من شأنه أن "يحمل انعكاسات خطيرة على الأمن والاستقرار الأوروبي"، كما جاء في الورقة.
4- أنجزت إثيوبيا 70% منه.
5- إن تهديدات مصر المتكررة بإيقاف بناء السد بالوسائل العسكرية، إذا لزم الأمر، غير محتملة لأسباب كثيرة، ليس أقلها المسافة الطويلة التي تفصل بين البلدين (لأبطال اليمن من الحوثيين رأي مختلف جربوه آلاف المرات بواسطة مسيّراتهم وصواريخهم).
لذا، تنصح الورقة الأوروبيين بالتدخل لحلّ الخلاف بين الدولتين بقرض مالي يُعطى لمصر لتعويض - لاحظوا من! - إثيوبيا، كي تبطئ عملية ملء السدّ بما لا يضرّ مصر، شرط "المطالبة بإعادة توجيه سياسة الإنفاق الحكومي في مصر، والتي لا يجب أن توجه من الآن فصاعداً نحو المنطق الاستبدادي.
ولتحقيق إعادة التوجيه هذه، لا غنى عن القيام بإصلاحات سياسيّة نحو تحسين أسلوب الإدارة وآلية المساءلة، إذ "أصبحت مصر في عهد عبد الفتاح السّيسي ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم، وهي تمضي قدماً في مشاريع استعراضية كثيفة الاستخدام للموارد - مثل العاصمة الإدارية الجديدة التي تُقيمها الحكومة في الصحراء (ما لا يقل عن 45 مليار دولار) أو بناء محطة للطاقة النووية (25 مليار دولار تقريباً)، وفي الوقت نفسه، تم إهمال الاستثمار الحكومي في إدارة المياه، فمعظم مشاريع تحلية مياه البحر، على سبيل المثال، لم تبدأ في التبلور حتى العام 2017".
مما تقدَّم، نفهم أنَّ الاستراتيجية التي لا تزال وراء تشغيل سدّ النهضة، تتلخّص بالتالي:
1- الاستمرار في جعل سيناء "منطقة عازلة" يحظر تنميتها، وإعادة هندسة مصر سكانيّاً لتخفيف الضغط السكاني عن مجرى النيل، وجعله مجالاً حيويّاً لمصر.
2- سواء قبلت مصر بالعرض الأوروبي أو رفضته، فإن تدفّق مياه النيل لن يبقى على حاله. لذا، سيضطرّ الفلاحون أو أبناؤهم إلى البحث عن مصادر رزق جديدة لن يجدوها، بفعل سياسة التبعية المصرية للمركز الإمبريالي.
3- أما إذا قبلت مصر بهذا العرض، فإنَّ حالة التبعيّة المصرية ستدوم، ولن تكون قادرة على تنمية حياة الفلاحين، لأنَّها ستغرق الدولة بالديون، الأمر الذي سيحول دونها ودون تجديد سلاحها ومحاربة الإرهابيين في سيناء. لذا، إنَّ ملايين الفلاحين المصريين سيضطرون إلى مغادرة أراضيهم والهجرة، أي العودة إلى تكرار استلاب إرادة مصر بالديون والاتفاقيات المختلفة، كما فعل الفرنسيّون مع مشروع قناة السّويس (1859- 1869)، والذي أودى بحياة 120 ألف عامل مصري أثناء الحفر، من بين 4 ملايين هي عدد سكان مصر في حينه.
وبما أنَّ تأميم القناة وبناء السدّ العالي والوحدة مع سوريا شكّلت عناصر النهضة الحديثة لمصر، نعود اليوم ونكرر أهميتها مرة أخرى، بضرورة التخلّي عن اتفاقيات "كامب ديفيد"، وفك الحصار عن قضاء غزة، وجعله يتكامل سكانيّاً وسياسياً مع مصر، ومناخات الوحدة المصرية - السورية والجيش الأول والجيش الثاني. ما عدا ذلك، أي عمل مصري منفرد بعد الآن يعتبر عبثياً.
لكن القيادة المصرية المتمثلة بالرئيس السيسي تفاجئنا يوميّاً بعد قدرتها على فهم من هو العدو الخارجي ومن هو الداخلي، بتصريحه الخطير للغاية: "التعدي على أرض الدّولة خطير مثل سدّ النهضة!"، والأخطر هو المفاوضات التي بدأتها مصر مع مصرف إماراتي وآخر "إسرائيلي" للحصول على قرض منهما، فهل سنعود إلى مناخات قبائل الهابيرو في قصة يوسف؟!