الجولة الأولى في معركة الحكومة اللبنانيّة
في ظل الأجواء الرافضة للقوى الحزبية الطائفية، كان المناخ مناسباً لتقديم شخصيات ليست جزءاً في ظاهرها من أيّ تيار، ويمكن إصباغ صفة الحياد الّذي أصبح مطلباً لبنانياً حقاً يراد به باطل عليها.
لم يكن اعتذار مصطفى أديب مفاجئاً، في حين كان اختياره منسجماً مع حركة الشّارع اللبنانيّ بعد انفجار مرفأ بيروت، فمنذ السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019، وانطلاق ما سمي بالثورة، أجمع الشّارع على فكرة الإطاحة بكل القوى السياسية الطائفية اللبنانية، وإن ظهر بعضها في مواقع التأجيج أحياناً، والثأر أحياناً أخرى، مع استثناء لا يمكن إغفاله، وهو حزب الله الذي ظلّ متوازناً في ردود فعله تجاه التحركات، ومتيقظاً لكلّ ما يحاك ضده ضمن تحالفات غير مباشرة بين القوى المعادية للمقاومة والشّارع الأقرب إلى المنظَّمات غير الحكوميّة (ناشطي ngos).
في هذه الأجواء الرافضة للقوى الحزبية الطائفية، كان المناخ مناسباً لتقديم شخصيات ليست جزءاً في ظاهرها من أيّ تيار، ويمكن إصباغ صفة الحياد الّذي أصبح مطلباً لبنانياً حقاً يراد به باطل عليها. ولعلّ شخصية مصطفى أديب الأكاديمي والدبلوماسي كانت تحمل أحلام الشارع من جهة، وطموح السفارتين الأميركية والفرنسية من جهة أخرى، إذ يمكن تحويل العمل عبر المنظمات غير الحكومية (ناشطي ngos) إلى العمل عبر حكومة رسمية، تحمل في جوهرها خلاصة ما يمكن أن تقدّمه تلك المنظّمات بشكل رسمي له من الشرعية، بما يكفي لتنفيذ الأجندات من دون وسطاء.
أوَّل ما يطالع الباحث عن شخصية رئيس الوزراء المستقيل مصطفى أديب أنه شغل منصب سفير لبنان في ألمانيا، لكن الأهم في سيرته هو منصبه كمدير لمركز الدراسات الاستراتيجية للشرق الأوسط، المتمركز في لبنان وفرنسا. ومن المفيد أن نشير إلى الدراسة التي قام بها، ونشرتها مبادرة "الإصلاح العربي"* في العام 2012، بعنوان "رؤى لإصلاح قطاع الأمن في لبنان"، إذ جاءت في سياق أسمته المبادرة الأمنوقراطيات العربية وإصلاح القطاعات الأمنية.
واللافت في ورقة أديب انسجامها مع الشّعارات التي رفعت في الشارع اللبناني (كلن يعني كلن)، وجاء فيها صراحة أنّ من معوّقات إصلاح الأمن والجيش اللبناني هو وجود حزب الله، الّذي قال عنه "إنَّه بحقّ دولة داخل الدولة، ويعتبر رأس حربة للاستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط، ويمثل لها وسيلة تواصل مع القضية الأهم في العالم العربي الإسلامي، ألا وهي القضية الفلسطينية".
ولم يغفل عن التّذكير بالقرار 1701 الَّذي أبعد الحزب من الحدّ الجنوبي، مع تلميح بأنَّه لا زال موجوداً هناك بالسرّ، وأن الحزب توجّه إلى المشاركة السياسية الداخلية، لكونه يمثّل مصالح الطائفة الشيعيّة، وصولاً إلى اتهامه بالسّيطرة على حكومة نجيب ميقاتي في العام 2011، ليخلص إلى أنّ العائق الأكبر والأقوى أمام إصلاح القطاع الأمني هو وجود قوات عسكرية غير نظامية أو غير منظمة قانونياً، ومنها قوتان يمكنهما أن تواجها قوى الدّولة وتنتصر، وأن وجود حزب الله في لبنان هو سبب من الأسباب التي تمنع إجراء إصلاح قطاع الأمن حالياً.
ويبدو أنَّ منظَّمات ونشطاء المنظّمات غير الحكومية اللبنانية المحلّية، وفروع المؤسَّسات الدولية الأميركية والفرنسية، وغيرها من المنظَّمات التي لها مكاتب في لبنان، تلقّوا هزيمة في الجولة الأولى الَّتي اعتقدوا أنَّ أديب جاء ثمرة لعملها الدؤوب، ولكونه كان من ضمن العاملين معها والميسّر لدراساتها وأبحاثها.
ومما سلف، يبدو أنَّ استقالة حكومته قبل الانتهاء من التشكيل ستكون بداية لتحميل الطائفة الشيعية مسؤولية إعاقة تشكيلها، كما جاء في ورقته حول دور الطائفة، ممثلاً بحزب الله من تعطيل التشكيل سابقاً، إذ يقول: "إن حزب الله كان قد همّش بعد استقالة الوزراء الشيعة في تشرين الثاني/نوفمبر 2006"، من دون أن يشير إلى المعركة التي خاضها الحزب دفاعاً عن لبنان والنصر الَّذي أحرزه، وأنّ استقالة النواب جاءت بسبب تحميل الشّيعة والمقاومة مسؤولية الحرب.
ولم يغب عن باله دور المجتمع المدنيّ وقواه في إصلاح قطاع الأمن في لبنان، وبلغة تعد جزءاً أصيلاً من أبجديات مؤسّسات المجتمع المدني المتمثّلة بالمنظّمات غير الحكوميّة، الَّتي استبشرت خيراً بتكليف أديب، إلّا أنَّ رياح الحق جاءت مغايرة لسفن الـNGOs والسّفارات الغربية العاملة بلبنان.
واليوم، تجيء استقالته أو انسحابه بعد لقاء شخصيتين وازنتين في المشهد السياسيّ اللبناني، لعلَّه سيعود وأنصاره لتحميل تياريهما السياسيين مسؤولية الإخفاق في تشكيل الحكومة، كما عبّر عن ذلك في ورقته السالفة الذكر، الصّادرة عن مؤسَّسة ليست بعيدة عن عمل مؤسَّسات المجتمع المدني، المذيّل لبنوك أفكار ومعاهد غربية ليست بعيدة أو بمعزل عن العمل الاستخباريّ الأميركيّ.
* للاطّلاع على موقع المبادرة وورقة مصطفى دياب:
https://cutt.us/c2JCc