"لاء" واحدة مقابل لاءات ثلاث
كيف يمكن لهذه الصّور الثلاث أن تتلاءم في وطن واحد؟ لقد تربَّينا على أنّ الوطن العربيّ وطن واحد، فكيف أصبح فجأة وطناً للغرباء؟
تتسارع الأحداث في منطقتنا العربية، وكأننا في صراعٍ انتخابيّ ينهمك فيه المرشّحون في تقديم رشاويهم للشعب كالعادة، لضمان الفوز في النهاية، لكنْ ثمة شيء مريب هذه المرة، فالرشوة أتت من رئيس عربي لشعبٍ صهيوني وآخر أميركي، ألا يعدّ ذلك غريباً؟ أليس غريباً أن لا يرى هؤلاء فداحة الأمر وحماقته؟ ألم يتعلَّموا من أنور السادات حين قرر أن يقدم الرشوة للصهاينة؟!
إنّها صور غريبة لمشاهد أغرب. الصورة الأولى، وفقاً للترتيب الزمني، تأتي من الإمارات "العربية". ! هذا المشهد مؤلم جداً، لأنه يدفع جيلاً مقبلاً من الشباب العربي إلى التطبيع؛ هذا الجيل الذي لم يرَ مشهد الطفل الفلسطيني محمد الدرة وهو يحتمي بوالده، ليقع شهيداً بعدها، والسبب أنه يعيش في أرضه السليبة فقط، ولكننا نرى اليوم أبناء السلام المزيّف المغطّى بصور أطفال عرب لا يدرون عن هذا الطفل العربي شيئاً!
ثمة مشهد آخر يستذكره من عاش حرب تموز؛ الحرب التي شنَّها "هذا البلد المسالم إسرائيل" على أرض عربية، وقتل أطفالاً لن يعرف عنهم أطفال الإمارات في المستقبل شيئاً. هذا المشهد يشبه إلى حد كبير مشهد الأطفال الإماراتيين مع العلم الإسرائيلي، لكن نستبدل بهم أطفالاً إسرائيليين يكتبون على صواريخ الحرب الموجّهة إلى لبنان: "هدايا لأطفال لبنان".
بالفعل، يعجب المرء من الكرم والسخاء اليهودي! هذا المشهد المؤذي لكل مشاعر الإنسانية لا يقلّ أذى على قلوب الأطفال الفلسطينيين من مشهد أطفال الإمارات.
ننتقل إلى الصّورة الثانية، وهي تجسّد من الحزن والأسى ما يطابق حزننا على حال الأمة العربية من الهزل الذي وصلت إليه، بل تختصر حال القضية الفلسطينية التي باتت غريبة ووحيدة ومشردة، فلا يوجد بيت يلمّ أطرافها المبعثرة، ولا يوجد أشقاء يكونون لها السند في الشدة، والأصعب عندما يصبح الشقيق حليف العدو، وتحارب هذه القضية وحدها في معركة وجودها.
وحده العلم بقي ولم يسقط، على الرغم من الجسد المدفوع إلى الأرض بهدف الإذلال، وعلى الرغم من القدم النّجسة فوق رقبة العزّ والفخر لأبٍ كآبائنا في عمره المتفاني في الكدّ على عياله والسعي لإيوائهم تحت سقفٍ يقيهم من كدرات الدنيا وطوارق الأيام. تلك الصورة لامست وجدان كل إنسان؛ صورة الرجل الفلسطيني المسن وهو يحاول أن يجمع ما بقي من قوة تجعل قدميه ثابتتين على الأرض في وجه غريب يحاول إسقاطه.
داس هذا الجندي على رقبة الرجل بمشهد شبَّهه البعض بجورج فلويد، لكن المشهد هنا أكثر بشاعة ودناءةً، سواء كان من ناحية العمر، أو من ناحية الإصرار على الإذلال والاستقواء، أو من ناحية الغربة التي يعيشها الشعب الفلسطيني على أرضه، وأخيراً من ناحية اللامبالاة الإنسانية في إظهار التعاطف مع هذا الرجل وما يمثل من الإصرار على البقاء، ولو كان لا يملك سوى قطعة قماش تحمل الهوية وتعدّ أغلى ما لديه: علم فلسطين.
إن كلمة "وينيكو يا عرب" نفسها لم نعد نسمعها من فلسطين، لأنَّ الفلسطينيين فهموا القضيّة حتى قبل هاشتاغ #فلسطين_ليست_قضيتي، وأدركوا أنَّ معركتهم أصبحت تعتمد عليهم وعلى صلابتهم، وعلى شبابهم الذين لا يمكن للسنين أن تنسيهم حقهم، وعلى النساء الثابتات كأشجار الزيتون في الأرض، وعلى الرجال والشيوخ في وقت شاخت فلسطين في بعض الأذهان العربية، وأصبحت تلك الهتافات المنادية "فلسطين عربية" لغة خشبية.
فعلتها الإمارات ثم البحرين، ولا يزال العداد مفتوحاً في مشهد التهادي للولايات المتحدة الأميركية لتأخذ حتى ترضى، وعداد الشّخصيات الإعلاميّة والثقافيّة والدينيّة المطبّلة للسّلام مع "إخوتنا اليهود" لا يزال مفتوحاً أيضاً، ألسنا أولاد عمومة؟!
الصّورة الثالثة تظهر أطفال البحرين. ورغم قتامة الخلفيّة، فإنَّها صورة مشرقة تدعو إلى الأمل بأن لا يطبّع الشعب كما طبَّع الحاكم. يعود الفيديو إلى أطفال بحرينيين يرفضون التطبيع، ويؤكدون أنّ فلسطين ستبقى قضية العرب الأولى. أي خزيٍ يا حمد أن يخرج أطفال بلدك وهم لم يدركوا زمن ترويع الفلسطينيين وتهجيرهم وقتلهم، وربما لم يشاهدوا التغريبة الفلسطينية لحاتم علي، حتى نقول إنهم رأوا شيئاً من الظلم بحقّ هذا الشعب العربي الشقيق!
كيف يمكن لهذه الصّور الثلاث أن تتلاءم في وطن واحد؟ لقد تربَّينا على أنّ الوطن العربيّ وطن واحد، فكيف أصبح فجأة وطناً للغرباء؟ كيف بتنا نرى أعلامهم تغزو إعلامنا؟ كيف يغيّر إعلامي عربيّ موقفه في ليلة وضحاها؟ كيف أصبح مباحاً لإمام الحرم المكّي أن يزوّر تاريخ الرسالة النبوية ليلمّع صورة اليهود في الجزيرة العربية؟
إنّ التطبيع رسمياً لا يحتاج إلى كلّ ذلك، فقول الحاكم وفعله لا يناقش فيه، لكنَّ المطلوب أبعد من ذلك. المطلوب أن يطبّع الفكر العربيّ، أن تُمحى فلسطين من ذاكرة الأجيال العربية، أن يزوّر التاريخ لتطمس معه الحقائق، فيصبح الجلاد هو الضحية، وتصبح الأرض لمن احتلّها، ليغيب عن أذهاننا جمال عبد الناصر واللاءات الثلاث، وتحلّ محلها "لاء" واحدة هي "لاء" الجامعة العربية لفلسطين؛ هذه "اللاء" الّتي كنا نهزأ بها، لكثرة استعمالها في التنديد، ومن دون أثرٍ يذكر، عند كلّ جريمة من جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
لقد باتت هذه "اللاء" نفسها عزيزة على المطبّعين من العرب، وباتت تشهر في وجه فلسطين، لكونها تطلب شيئاً لم يعد من حقّها. صعبٌ جداً أن نعيش في زمنٍ واحد؛ زمن فلسطين وزمن الأوغاد، زمن الماء وزمن الطين، زمن الحر وزمن العبد!