مسلسل التلحيم في مرفأ بيروت.. العرض مستمر
أن يكون التلحيم سبب الحريق في كلّ مرة، فهو أمر يدعو إلى السخرية. طوال سنوات عمل المرفأ، لا بد من أن تلحيم المستوعبات المعدنية والأبواب كان يجري على قدم وساق.
ما الَّذي يُطبخ في مرفأ بيروت حتى بات مطلوباً أن تبقى نيرانه مشتعلة، ما يبقي لبنان على نار حامية، إذ لم نكد نخرج من تفجير الرابع من آب/أغسطس حتى دخلنا في حريق العاشر من أيلول/سبتمبر، وكأن هناك من يريد لمرفأ بيروت أن ينأى بنفسه كواحد من أهم المرافئ على شواطئ البحر المتوسط، أو ربما لم يحن الوقت بعد حتى تنطفئ ناره، فتداعيات الانفجار ما يزال صداها يتردَّد.
وفي وقت تغلي المنطقة على حرارة نار الحروب الممتدة من بغداد إلى سوريا إلى ليبيا إلى اليمن، وفي وقت كان يراد إشغال مصر على حدودها الغربية مع ليبيا، وفي محنتها القادمة مع مؤامرة سد النهضة العالمية عليها، علينا أن لا نخطئ البوصلة، فكل ما يحدث يراد فيه فلسطين، وتنفيذ "صفقة القرن"، وإعلان عالمي للقدس عاصمة لـ"دولة إسرائيل"، وما يريده الرئيس الأميركي ترامب من إثبات قدرته على الفوز بجائزة السلام العالمي، مثل نظيره الديموقراطي جيمي كارتر، والبرهنة لأميركا ولناخبيه من البيض الأنغلوساكسون المشيخيين والمنظمة الصهيونية العالمية أنّه جدير بالانتخاب لدورة رئاسية أخرى. وبحسب روايات بعض شهود العيان في أميركا، فإن هؤلاء يجولون بكامل سلاحهم في الولايات الداعمة لترامب، وصوره تنتشر بكثافة في الشوارع.
وباسم التحقيق والمساعدات الإنسانية، تعرَّضت بيروت للاجتياح الدبلوماسي، ووصل إليها الخبراء العسكريون ومحققو الانفجارات، وكان المطلوب وصول المدمرات وحاملات الجنود التي جاءت من كل حدب وصوب.
في الحقيقة، إن وصول وزير الخارجية الإيراني إلى لبنان، وإعلانه أن البوارج الأجنبية على سواحل بيروت تهدد الشعب اللبناني، وإعلانه أيضاً عن استعداد إيران لمساعدة الحكومة اللبنانية، كان له دورٌ رئيسي بمغادرة البوارج مرفأ بيروت، فاليوم لا يريد أحد المواجهة العسكرية في المنطقة، والتي كانت ستزيد من قوة محور المقاومة في لبنان والمنطقة.
في 4 آب/أغسطس، تعالت جوقات الصراخ التي أطلقت الاتهامات بوجود أسلحة للمقاومة مخزنة في المرفأ، وهي الجوقات التي بدأت بمهاجمة المقاومة وحلفائها منذ اختطاف تحرك 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، الذي كان يهدف في البداية إلى محاربة الفساد وتغيير السياسات الاقتصادية التي أدت إلى تقويض مقومات العيش في لبنان.
اتّضح خلال الأسابيع التي تلت الحراك الاتجاه الذي أريد لجوقات الصراخ التصويب عليه، وتبيَّن أن حكومة الاختصاصيين التي كان الحراك يطالب بها، لم تكن المطلب الأساسي. وبدأت الجوقات بالتصويب على الحكومة وسلاح المقاومة جهاراً نهاراً، وانهالت الاتهامات بالتسبب بالأزمة الاقتصادية وحماية الفساد، والمطالبة بانتخابات نيابية مبكرة تعبر عن تحركات الشارع، وتحوّل الصراخ إلى التخريب واستخدام الحجارة والتكسير والسرقات واستخدام قنابل المولوتوف، وأخيراً خرج السلاح المتواري في أماكن مختلفة في لبنان، ولكن الحكومة صمدت.
في هذه الظروف، جاء انفجار بيروت في الرابع من آب/أغسطس كي يفتح الباب على مرحلة جديدة في الصراع على شرق المتوسطً.
مرفأ بيروت، وبعد الحصار الّذي فرض على سوريا، يعدّ أحد أهم موانئ شرق المتوسّط، وهو المرفأ المنافس لمرفأ حيفا في فلسطين المحتلة. وكان الاقتصاديون اللبنانيون يعوّلون عليه لناحية تحسين الوضع الاقتصادي في حال تم الانفتاح على سوريا، إذ من المفترض أن تمر عبره المواد التي تحتاجها الأخيرة لإعادة الإعمار، ولكنه بات اليوم شبه معطل.
عاد المرفأ إلى العمل جزئياً بعد أسبوعين من التفجير، فجاء الحريق الذي اشتعل في 10 أيلول/سبتمبر بموجة جديدة من القلق المبرر لدى الناس.
في الحقيقة، حريق "10 أيلول/سبتمبر" ليس سياسياً، ولكنّه كشف حقائق تتعلّق ببضائع مخزنة ومهربة وفاسدة، وهو يقع في إطار التهرب من الضرائب ومن عقوبات السرقات والمطالبات بتعويض شركات التأمين، وهو يكشف حالات الفساد المستشري، ليس فقط لدى بعض السياسيين، بل لدى التجار الذين يستقدمون البضائع أيضاً. للأسف، إنّ ذاكرة اللبنانيين قصيرة، ولكنّ هذا الأمر كان جلّياً عندما بدأت حملة وزارة الصحة منذ شهرين تقريباً بمداهمات وكشف عن لحوم فاسدة تباع في الأسواق اللبنانية.
والمقلق في حريق 10 أيلول/سبتمبر هو تلف المعونات التي تلقاها الصليب الحمر من أجل المتضررين من انفجار المرفأ. وقد يكون الأمر نفسه حدث لمعونات أخرى تقبع في المرفأ، فهل يحاول أحدهم إخفاء الحجم الحقيقي للمعونات، وخصوصاً أنّ العديد منها وجد طريقه إلى المحلات ليشتريه المتضررون وفقاً للأسعار غير المدعومة، والدليل على ذلك عرض أحد الدكاكين سكراً فرنسياً جاء ضمن المساعدات، ولكن بسعر مخفض: 3000 ليرة لبنانية مقابل الكيلو الواحد! سيناريو يشبه سيناريو المساعدات الدولية والعربية في العام 2006.
أن يكون التلحيم سبب الحريق في كلّ مرة، فهو أمر يدعو إلى السخرية. طوال سنوات عمل المرفأ، لا بد من أن تلحيم المستوعبات المعدنية والأبواب كان يجري على قدم وساق، ولكن هناك من يريد العودة إلى افتعال الأزمات في لبنان عبر إعادة التجريف في جرح المرفأ، من أجل خلق الذرائع للمنتفضين ضد سلاح المقاومة، رغم أنهم ليسوا بحاجة إلى ذلك، فهم لديهم من الوقاحة ما يكفي لفعل ما يطلب منهم من دون أدنى مبررات، ولكن من يحتاج إلى المبررات هو اللاعب الغربي في الساحة اللبنانية، سواء كان الأميركي أو من يلعب معه بالوكالة.
دوى انفجار بيروت في المنطقة، كما دوى اغتيال الرئيس رفيق الحريري. كلاهما أدخل الفرنسي من بوابة بيروت، ومن خلفه تلطى الأميركي. كلا الحدثين طالب بسلاح المقاومة، وكلاهما طالب بعزل حزب الله سياسياً، ولكن مطالب الانفجار بعزل الحلفاء في المقاومة عن السلطة تظهر وقاحة أميركية تشبه وقاحة رئيسها وهو يعرض صور المقاتلات خلال لقائه مع محمد بن سلمان.
لكلّ من الحدثين تداعيات؛ في الحدث الأول كان توالي الاغتيالات التي طالت شخصيات لبنانية، وفي الآخر توالي سلسلة من حوادث الحرائق والمشاغبات. في الأول، استقالة الحكومة الوطنية برئاسة الرئيس عمر كرامي، والمجيء بحكومة فؤاد السنيورة، وفي الآخر استقالة حكومة الرئيس دياب الوطنية، والمطلوب هو المجيء بحكومة لا علاقة لها بمجلس النواب المنتخب وبتمثيل الإرادة الوطنية اللبنانية.
بالعودة إلى الهدف الحقيقيّ مما يحدث في البلاد العربية، ومنها لبنان، إنَّ المطلوب هو رأس المقاومة ومحورها، وخصوصاً بعد أن فشلت أهداف الحرب على سوريا. وفي مرحلة باتت فيها التسويات السياسية على قدم وساق، بات من المطلوب تحقيق سياسة التطبيع مع العدو الإسرائيلي من خلال محاصرة المحور المقاوم عبر سلسلة من العلاقات التجارية مع دول الخليج، وخصوصاً بعد أن بدأ بعضها بالانفتاح على سوريا.
إنَّ الفشل في هزيمة محور المقاومة، وبالتالي دفع المحور نحو التطبيع، استدعى خططاً أميركية جديدة، فكان لا بدَّ من العودة إلى خلق القلاقل في لبنان وسوقه باتجاه حرب أهلية جديدة يعتقد الأميركي أنها من الممكن أن تشغل المقاومة عن استهداف الكيان الصهيوني.