ما بعد اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في بيروت

تدرك القيادة الفلسطينيّة أنَّ التطبيع والاتفاق الثلاثي الأميركيّ الإسرائيليّ الإماراتيّ حلقة ضمن سلسلة من الحلقات التي ستحاول من خلالها الإدارة الأميركية تطويق القضية الفلسطينيّة وفرض "صفقة القرن".

  • كلمة الرئيس الفلسطيني خلال اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في بيروت
    كلمة الرئيس الفلسطيني خلال اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في بيروت

على الرغم من مرارة انقطاع الكهرباء جراء الحصار الوحشيّ الإسرائيليّ لقطاع غزة، فقد حرصت مع الكثيرين على توفير فرصة متابعة البثّ المباشر لاجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينيّة وممثّلي وأعضاء القيادة الفلسطينيّة، وأسعدتنا المساحة الإعلامية التي خصّصت لتغطيته بشكل كامل، وأتاحت الفرصة لأبناء شعبنا الفلسطيني ولكلّ المهتمين للاطلاع على مجريات الحوار ووجهات النظر والمواقف التي تناولت الشأن الفلسطيني بكل أبعاده، وما يمكن أن يترتب على هذا الاجتماع المهم من خطوات عملية.

وإذا كانت هذه التغطية الإعلامية المباشرة بحدّ ذاتها رسالة أرادها صنّاع القرار أن تصل من دون التباس، فإنَّها كذلك تحمل الكثير من الدلالات التي سنأتي على ذكرها في سياق الملاحظات التي نرغب في تسليط الضَّوء عليها حول أجواء الاجتماع الذي انعقد في ظلّ الظروف الراهنة الدقيقة والاستثنائية التي تعيشها السّاحة الفلسطينيّة. ومن هذه الأجواء، نلاحظ:

أولاً: لأوَّل مرة منذ سنوات طويلة، ينعقد مثل هذا الاجتماع على المستوى القيادي المقرّر، ولأول مرة كذلك، ومنذ سنوات، يكون الاجتماع من إعداد الفلسطينيين وحدهم وإشرافهم، وبمتابعة من القيادة الفلسطينية، ومن دون وساطة ورعاية أو تدخّل عربي أو غيره. وهنا، يمكن الانتباه كذلك إلى الدور الرئيسي الذي قام به الرئيس الفلسطيني لتسهيل انعقاد الاجتماع وتذليل العقبات على أنواعها.

ثانياً: ارتفاع مستوى تقبّل الرأي والانتقاد السياسيّ المسؤول، وتراجع النعرات العصبية والمزايدة اللفظية ونرجسية امتلاك الحقيقة واحتكارها، والبحث عن المشترك الموضوعي في إطار تشخيص الأخطاء والتجارب والثغرات، وكذلك الإحساس المتزايد بحجم التحديات والمخاطر الَّتي باتت تستهدف القضية الوطنيّة بأكملها. ولعلَّ الكلمات الّتي قدّمها الجميع وفّرت مناخاً عالياً من الإيجابية التي يمكن البناء عليها للمرحلة المستقبلية التي أسَّس لها الاجتماع.

ثالثاً: المشاركة الرمزيّة لعدد من عائلات الأسرى، للدلالة على التمسّك بقضيّتهم العادلة، والحرص على صون تضحياتهم التي شكّلت على الدوام إحدى الروافع الكبرى للنّضال الوطني الفلسطيني.

رابعاً: من بيروت إلى رام الله، وصولاً إلى الأراضي المحتلة في العام 48، تجسَّد هذا الوصال بمشاركة رئيس لجنة المتابعة الأخ محمد بركة، وجمع ركائز النضال الفلسطيني في كلّ التجمّعات الرئيسيّة لشعبنا، وأضافت إليه كلمة الداخل روحاً من القوة والعزم، وشيّد بالفعل فرصة من الأمل، وقلّص مساحة الإحباط التي أثقلت كاهل الشعب الفلسطيني في السنوات الأخيرة.

خامساً: وإذا كانت الظروف والأسباب المؤدية إلى إجراء الحوار السياسيّ الداخليّ، ومراجعة المواقف، وإعادة بلورة الأولويات المشتركة التي تتطلّبها مهمات بناء الوحدة الوطنية والشراكة السياسية، أصبحت ناضجة ومتاحة أكثر من السابق، فإنَّ البعض مطالب بالنظر إلى أبعد من ذلك والبحث في آفاق إعادة توحيد عدد من الفصائل والجبهات بديلاً لهذا التراكم العددي، وحشد الطاقات والإمكانيات، واستنهاض عوامل القوة الذاتية، إذ لا يخفى حجم الاستعصاءات الداخلية لبعض المؤسسات التنظيمية، وأهمية إجراء التحولات في أوضاعها، والتي قد يكون العامل الموضوعيّ قد وفر الكثير من الشروط لتوحيدها مجدداً، والتخلّص من كلّ الأعباء النرجسية والأنانية الشخصية والحسابات والمصالح الضيقة أمام المصلحة الوطنية العليا والدور الذي ينبغي أن تتطلع فيه هذه الفصائل لقيادة الشعب الفلسطيني وتعزيز صموده والدفاع عن حقوقه العادلة والمشروعة.

سادساً: ومن الملاحظات المهمّة التي جرى ذكرها، تلك المتّصلة بعدم حصر المركز الرئيسيّ للمؤسّسات العاملة تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة أو غزة، وإفساح المجال أمام بعضها للقيام بمسؤولياته من أماكن تواجد شعبنا في أقطار اللجوء، وذلك للعديد من الاعتبارات الحيوية والضرورية، سواء ما يتصل منها بالاشتباك مع الاحتلال، أو سياسات الحصار والتقييد والابتزاز والملاحقة، ولإعطاء المزيد من الاهتمام وتوازن الثقل في المتابعة والعمل بين أوساط التجمعات الفلسطينية الرئيسية، وللحفاظ على الكيانية الخاصة بمؤسَّسات منظمة التحرير الفلسطينية في قيادة العمل على المستويات والأصعدة كافة.

سابعاً: تدرك القيادة الفلسطينيّة تماماً أنَّ خطوة التطبيع والاتفاق الثلاثي الأميركيّ الإسرائيليّ الإماراتيّ حلقة ضمن سلسلة من الحلقات التي ستحاول من خلالها الإدارة الأميركية تطويق القضية الفلسطينيّة، وفرض الشّروط والإملاءات للقبول بـ"صفقة القرن"، والتماهي مع المخطّط الجاري لإشراك دول المنطقة في الصراع مع إيران، وفي المواجهة مع أطراف محور الممانعة والمقاومة في جميع الساحات.

ولهذا، إنَّ عدم التسليم بهذه السياسة، ومواجهة مسار التطبيع بكلّ أشكاله وإفشال أهدافه، تعتبر من أهم العناوين التي التزم اجتماع الأمناء العامين بالعمل بكلّ الوسائل لتحقيقها وإفشال بضاعة التطبيع الفاسدة.

وعلى المستوى السياسيّ، إن البيان الختامي للاجتماع فتح الأبواب للشروع في العمل المباشر على المحاور التي تم الاتفاق عليها، ومنها تشكيل القيادة الموحدة المقاومة الشعبية، وتشكيل اللجان المعنية بتحضير البرامج والخطوات اللازمة لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وتحقيق مشاركة فعليّة لكلّ مكونات الشعب والفصائل السياسية، وكذلك تحديد الخطوات اللازمة لإنهاء الانقسام بين جناحي الوطن، وتصحيح أوضاع مؤسَّسات السلطة، والتهيئة لاستئناف الحياة الديموقراطية والعملية الانتخابية على جميع المستويات، واعتماد نظام التمثيل النسبي الكامل لخوض هذه الانتخابات.

والأسابيع الخمسة التي حدَّدها البيان لإنجاز هذه المهام، والدعوة إلى اجتماع آخر للأمناء العامين، وكذلك للمجلس المركزي، تعتبر من الناحية العملية كافية لتذليل ما هو قائم من عقبات واختلافات، وعدم الانشغال الداخلي على حساب حشد الطاقات والجهود لمواجهة التحديات والمخاطر الناجمة عن مسارات التطبيع والتوسّع الاستيطاني والضم التدريجي، والتي يحاول العدو الإسرائيلي فرضها كأمر واقع لتصفية الحقوق الفلسطينية.

أما بشأن اجتماع الأمناء العامين وأهميته، فهناك فرق شاسع بين الحذر والتخوّف الذي تبديه أوساط وازنة من شعبنا، والتقليل من الرهان على تنفيذ المقررات والجدية في تصويب المسار، على النحو الذي تتطلَّع إليه الغالبية من شعبنا.

وبين التّشكيك والسموم التي يبثّها البعض، لهدم الثقة بالمؤسَّسة القيادية الفلسطينيّة، وإشاعة الأضاليل، وتوفير المناخات للمروّجين والعابثين الَّذين يبحثون عن البدائل المصنوعة في معامل الإنتاج الأميركي والصهيوني، وللمتآمرين على حقوق شعبنا، أعتقد أن الجميع لاحظ المضمون الفعلي لرسائل وكلمات قطبي الخلاف، والجهود التي أفضت إلى انعقاد هذا الإطار القيادي، إذ لم يعد بإمكان أي من الخيارات الخاصة للطرفين تجاهل التحديات والمخاطر التي باتت تستهدف المشروع الوطني الفلسطيني.

إنَّ التجارب والدروس والعبر ينبغي توظيفها في مصلحة استنهاض عوامل القوة الذاتية الفلسطينية، وحماية الوحدة الوطنية، كصمام أمان حاسم في إفشال المشاريع التصفوية، من مثل "صفقة القرن" وملحقاتها، وما سبقها من خطوات استهدفت تجريد الشعب الفلسطيني من كل مقومات القوة الذاتية.

ومن المؤكّد أنَّ جميع المتضررين من نتائج هذا الاجتماع سيضاعفون أشكال الضغط ووسائل التخريب والابتزاز والحصار لإبقاء الحالة الفلسطينية تحت وطأة الانقسام والانهيار التدريجي، وسنشهد المزيد من الصعوبات والتحديات التي ستُفرض على الشعب الفلسطيني وقيادته، وستكون الشهور القادمة ملتهبة على المسارات كافة، إلى حين ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية وما ستتركه من آثار في المشهد الدولي.

المهمّ أنّ الرئيس أبو مازن طلب من الجميع في نهاية هذا الاجتماع الشروع فوراً بالعمل، ومن دون تحفّظ، وفتح الطريق للجميع لتحمّل المسؤوليّة. والمطلوب بصورة عاجلة التقاط هذه الفرصة، لوضعها برسم التحوّل التاريخيّ الَّذي يعيد إلى النضال الوطني الفلسطيني مكانته وحضوره وتأثيره الكبير في رسم المعادلات، واستئناف مراكمة عوامل وشروط تجسيد الحقوق العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني.

أنظمة عربية عدة، وبعد سنوات من التطبيع السري مع الاحتلال الإسرائيلي، تسير في ركب التطبيع العلني، برعاية كاملة من الولايات المتحدة الأميركية.