دعوة إلى دور روسي فاعل يملأ الفراغ في اليمن
الفرص المتاحة لدور روسي تبدو اليوم أكبر من حجم التحديات التي يُمكن أن تواجه هذا الدور، وخصوصاً في ظلّ معطيات الفشل العسكري لتحالف العدوان على اليمن.
عندما سُئل السفير الروسي لدى اليمن، فلاديمير ديدوشكين، في لقاء مع قناة "RT" الروسية العام الماضي عن موعد عودته إلى صنعاء، أجاب قائلاً: "أُحب العودة هذه السنة... هذا اليوم"، رابطاً ذلك بتنفيذ اتفاق ستوكهولم.
هذا الرد يمكن قراءته كمؤشر لتطلّع روسي إلى علاقات أكبر مع حكومة صنعاء في إطار المصالح المشتركة. بدورها، لا تخفي صنعاء تطلّعها إلى دور روسي فاعل يُسهم في إحلال السّلام في اليمن، حيث سبق أن أكد رئيس الوفد الوطني المفاوض محمد عبدالسلام على أهمية قيام روسيا بدور إيجابي في الملف اليمني من خلال ما تحظى به من علاقات ومكانة دولية وحضور في مجلس الأمن، والقدرة على الدفع نحو صدور قرارات دولية جديدة تُنهي العدوان والحصار وتفرض حواراً ًسياسياً بين الأطراف،
الفرص المتاحة لدور روسي تبدو اليوم أكبر من حجم التحديات التي يُمكن أن تواجه هذا الدور، وخصوصاً في ظلّ معطيات الفشل العسكري لتحالف العدوان على اليمن، وجرائمه وانتهاكاته الجسيمة بحق المدنيين، وما تسبب به من معاناة إنسانية فاقت كل التصورات، إضافةً إلى الفشل الذريع للمساعي الأممية.
هذه المعطيات تمنح روسيا فرصة وأولويّة أكثر من غيرها لأداء دور سياسي ودبلوماسي قوي يحظى بمساندة دولية، ويملأ الفراغ الدولي الناجم عن توجّهات بقية الدول الدائمة في مجلس الأمن الدولي، التي تتأرجح بين شريك للتحالف في عدوانه على اليمن أو غير مكترث به، فيما يفتقر الاتحاد الأوروبي إلى سياسة خارجية متّسقة تجاه هذا البلد.
رغم هذه المؤشرات المشجعة، لا يزال الدور الروسي في الملف اليمني محدوداً ومقيداً بمحاذير تدفع موسكو إلى محاولة الوقوف على مسافة واحدة من جميع أطراف الأزمة الداخلية والخارجية، كما لم تتمكن موسكو حتى الآن من ترجمة ما تحظى به من قبول وعلاقات جيدة مع تلك الأطراف إلى دور يُسهم في وقف إطلاق النار واستئناف المفاوضات، وصولاً إلى اتفاق سلام.
المدخل الروسي المحايد والمتوازن في التعاطي مع الملف اليمني، وفق توصيف موسكو، لا ينسجم مع حقيقة التطلّع البراغماتي الروسي في المنطقة كدولة كُبرى لها مكانة وثقل على المستوى الدولي، كما أن ما تدَّعيه موسكو من توازن وحياد لا يعدو كونه نجاحاً أميركياً بتحييد الدور الروسي، وجعله دوراً ذا سقف مغلق يصب في المصلحة الأميركية، على الرغم من أنَّ بإمكان روسيا في هذا التوقيت المؤاتي، وفي إطار علاقاتها وتحالفاتها الدولية، الانتقال إلى دور فاعل في اليمن، مدعوم من قوى دولية وإقليمية، كالصين وإيران، اللتين تشتركان معها في المصالح القائمة على ضرورة الحد من الهيمنة الأميركية على المنطقة العربية، فمثل هذا الدور يُعزز الحضور الروسي في المنطقة، ولا سيما بعد نجاح موسكو في في تحقيق الهدف الرئيسي من تدخلها في سوريا، أي المساهمة في تعزيز صمود سوريا وشرعية نظامها بقيادة الرئيس بشار الأسد.
لذا، إنّ أي دور روسي ناجح في اليمن سيزيد من شعبية واحترام الشعوب العربية لروسيا والرئيس بوتين، وسيُعزز الرؤية الروسية للأمن الجماعي في منطقة الخليج، كما سيؤهل موسكو للقيام بأدوار قوية في مختلف ملفات المنطقة، منها على سبيل المثال إحداث تقارب خليجي - إيراني.
حدود الدور الروسي المنتظر
إنَّ ما تتطلّع إليه صنعاء ليس أكثر من دور روسي إنساني مدعوم سياسياً ودبلوماسياً في إطار الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وفي إطار سياسة خارجية روسية نشطة على المستوى الدولي والإقليمي، تستند في تحركاتها إلى القانون الدولي الإنساني وقرارات الأمم المتحدة، وتتبنّى الملف الإنساني لرفع الحصار الشامل والسماح بدخول إمدادات الغذاء والوقود، ولا سيما عبر ميناء الحديدة الذي يعتمد عليه 70 في المائة من السكان، إضافةً إلى إعادة فتح مطار صنعاء الدولي، ومن ثم الانتقال إلى جهود السلام الرامية إلى وقف إطلاق النار، وتقريب وجهات النظر بين الأطراف الرئيسية التي تملك القرار لاستئناف المفاوضات. ويُمكن لهذا الدور أن ينطلق مستنداً إلى المواقف الروسية الرسمية تجاه الملف اليمني المتمثلة في ما يلي:
- موقفها المعارض للتدخّل العسكري الخارجي في اليمن، وانتقاد الدعم الأميركيّ للنظام السعودي الذي يقود الحرب على هذا البلد.
- دعواتها للوقف الفوري لإطلاق النار، واستئناف عملية المفاوضات، ورفع المعاناة الإنسانيّة والحصار المخالف لميثاق الأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن.
- مواقفها الداعمة في مجلس الأمن لوحدة اليمن، وعدم السماح بتمرير بعض القرارات والبيانات التي تتبناها الولايات المتحدة وبريطانيا.
- رؤيتها للأمن الجماعي في منطقة الخليج، والتي تتضمن ضرورة حل أزمات المنطقة، ومنها التسوية السياسية في اليمن.
- استئناف عمل البعثة الدبلوماسية الروسية من صنعاء، والتي ظلَّت تعمل في ظلّ العدوان، وغادرت نهاية العام 2017 لدواعٍ أمنية لم تعد موجودة.
انطلاقاً من هذه المواقف، موسكو مدعوّة إلى تطوير دورها وتوسيعه في الملف اليمني، وإعادة تقييم سياستها، والنظر في الكلفة والعائد من قيامها بتدخل سياسي ودبلوماسي أكبر في إطار مصالحها وتنافسها مع الولايات المتحدة في المنطقة على المدى الطويل.
بدورها، تُدرك صنعاء عدم مجانية مثل هذا الدور الروسي، والكلفة التي ستتحمّلها بعد انتهاء العدوان، في إطار ما يحظى به اليمن من أهمية جيوسياسية وفرصة ثمينة اقتصادياً واستثمارياً، فصنعاء دون غيرها تستطيع ضمان مصالح روسية في اليمن تُنهي الإقصاء الَّذي دام لعقود لمصالح روسيا الاقتصادية والاستثمارية في اليمن لصالح الولايات المتحدة والغرب، من خلال إعطاء الشركات الروسية أولوية في المجالات الحيوية، كالنفط والغاز وإعادة الإعمار، إضافة إلى إمكانية بناء تحالفات سياسية وعسكرية وأمنية.
لا شكّ في أن أي رهان روسي لتحقيق مصالح في اليمن عبر أطراف خارجية سيفشل حتماً، فقد أثبتت 5 سنوات مضت من عمر العدوان أنَّ صنعاء تملك قرارها في أحلك الظروف، ولا تقبل الإملاءات أو الضغوط، وحتى في إطار المصلحة الوطنية والتفاهمات المشتركة، هناك سقف وطني للتنازلات لا يُمكن لصنعاء تجاوزه.
كما أنَّ القراءة السياسية لتاريخ الجنوب تُشير إلى أن حالة الفوضى السياسية والأمنية والانقسامات القائمة ستطول، ولا يُمكن معها للنظام الإماراتي أو غيره ضمان مصالح استراتيجية مستقرة لنفسه، ناهيك بضمانها لغيره، ولا يعتد بما يحصل في أرخبيل سقطرى من حماقات للنظام الإماراتي وأحلام بالتواجد العسكري، فلن تسمح صنعاء بأيّ تواجد عسكري أجنبي في الجزر اليمنية، وستطال منظومتها الجوية والصاروخية أيّ تواجد هناك.
صنعاء بوصلة التحرك الروسي
بعد أكثر من 5 سنوات من العدوان، أضحى لدى موسكو خبرات متراكمة في الملف اليمني، في حصيلة علاقاتها ودعمها لحكومة هادي والمجلس الانتقالي في الجنوب، إضافةً إلى دعمها لعلي عبدالله صالح وحزبه في الشمال، كما يُفترض أن تكون صورة المشهد قد تجلت لدى موسكو بأنها دعمت الأطراف الأكثر ضعفاً في المعادلة اليمنية.
لذا، إن القراءة المعمقة لمستجدات الوضع في اليمن واستشراف مستقبله تحتم على روسيا طيّ صفحة صالح وما حملته من وعود تبخرت، ووقف التعاطي غير المجدي مع قيادات جناح الخارج لحزب المؤتمر الشعبي، لكونها لا تُمثل سياسة الحزب الذي يُعد طرفاً رئيسياً في حكومة صنعاء، كما أن الفشل والانحسار الكبير لسلطة هادي وحكومته التي تتلاشى شرعيتها المزعومة، تظهر أن لا جدوى أيضاً من التعاطي مع المجلس الانتقالي المرهون قراره بالنظام الإماراتي الذي يُهيمن على المجلس وقيادته الضعيفة التي لا تملك أي خبرات سياسية.
في ظلّ هذا الضّعف والتشظّي الذي تشهده الأطراف الداخلية المرتبطة بالعدوان، بدت صنعاء أكثر قوةً وتماسكاً عسكرياً وسياسياً، كما لم يعُد لدى الرياض خيارات مفتوحة للمضي فيها بعد فشل تحالفها وتفكّكه وإنهاك خزينتها. لذا، إنَّ النظام السعودي اليوم أكثر قبولاً لدور سياسيّ روسيّ ينتشله من المستنقع ويضمن أمنه، ولا سيَّما أنّ مكاسب صنعاء العسكرية تتعاظم، فقواتها تقترب من استعادة آخر المحافظات الشّمالية على حدود السّعودية، وهي محافظة مأرب، المعقل الرئيسي الذي راهن العدوان من خلاله على دخول صنعاء. ويُمثل استعادة مأرب ضربة قاضية للتحالف وما تبقى من حكومة هادي، لكون دلالاتها كبيرة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وهي تعزز صدارة صنعاء للمشهد.
ختاماً، إنَّ ما سبق من حقائق ومعطيات يقترح دعماً روسياً لتطلّعات صنعاء للسلام، لكونها الطرف الأكثر حضوراً وتماسكاً في المشهد اليمني، من خلال دور روسي قوي يُحقق مصالح مشتركة، ويُحدث توازناً دولياً يحول دون استمرار الغطرسة الأميركية - البريطانية الرامية إلى إطالة أمد العدوان على اليمن وإبقاء الملف من دون حلّ، لأن استمرار الدور الروسي بشكله الحالي لا يُمكنه بأيّ حال من الأحوال تحقيق تقدّم لإحلال السلام، كما أنه لا يضمن مصالح لروسيا.
ومع ذلك فصمود اليمنيين في وجه العدوان، وإيمانهم بعدالة قضيتهم والتضحية لأجلها يستوجب النصر والسلام لليمن، وما التطلع نحو دور روسي إلا مسعى في إطار مساعي صنعاء لإنهاء العدوان وتعجيل السلام.