تسوية لبنان.. تقاطع مصالح المتناحرين

المرحلة المقبلة تشي بمواجهة تركية فرنسية في الساحة اللبنانية، تحكمها ظروف صراعهما على كامل مساحة البحر المتوسط، بالتوازي مع توجّهٍ أميركي لإخماد نيران المنطقة.

  • مواطنون مقابل مرفأ بيروت الذي وقع فيه انفجار ضخم في 4 آب الماضي (أ ف ب).
    مواطنون مقابل مرفأ بيروت الذي وقع فيه انفجار ضخم في 4 آب الماضي (أ ف ب).

كان انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس الماضي شرارة لانطلاق مشروع جديد في المنطقة تقاطعت فيه مصالح المتناحرين، في إطار تسوية تبقى مؤقتة، بسبب استحالة تعايش أطراف محور المقاومة مع الكيان الصهيوني.

وبغض النظر عن كون التفجير مفتعلاً أو صدفة، عرَفَ الفرنسيون من أين تؤكَل الكتف، إذا صحَّ التعبير، فهندسوا مخرجاً أنزلوا من خلاله الأميركيين عن شجرة الملف اللبناني، وتعاملوا مع حزب الله بإيجابية كجزءٍ من الحلّ لا المشكلة، وحقّقوا لأنفسهم بشكل عام، وللسيّد ماكرون بشكل خاص، مكاسب بغاية الأهمية على عدّة صُعُد.

بالنسبة إلى الأميركيين، باتت مواجهة التمدّد الصيني من ثوابت الدّولة العميقة في الولايات المتحدة، وخصوصاً بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 17 أيلول/سبتمبر 2001، مروراً بإطلاقها مشروع الحزام والطريق في العام 2013، لتنفجر الأزمة بين الطرفين إثر انتشار جائحة كورونا في نهاية العام 2019.

وللتفرُّغ لهذا الصّراع المصيري، دخل الأميركيّون في مشروعٍ أسموه "الشرق الأوسط الجديد"، تتلخّص أهدافه في خلق منطقةٍ خاليةٍ من العقبات أمام تطبيع وجود الكيان الصهيوني، بغية إطفاء حريق المنطقة وإنهاء الملفّ الفلسطيني، فكان حزب الله في لبنان على رأس هذه العقبات.

بدأ الصراع الأميركي المباشر مع الحزب في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد بعد سقوط بغداد في العام 2003، واستمرّ حتى يومنا هذا، بهدف القضاء عليه أو إركاعه. وآخر فصول هذا الصراع كان حصار لبنان اقتصادياً مع انطلاق تظاهرات 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2019.

مع اشتداد الحصار، أشار الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى أنّ الانفتاح على الشرق هو استراتيجيّةٌ جدّيةٌ للمواجهة، ما يعني أن لبنان، في حال استمرار الانحدار الاقتصادي، سيكون موطئ القدم الصينية الأولى على البحر المتوسط، ما يتجاوز الخطوط الأميركية الحمراء التي ستضطر إلى مواجهته - في حال حدوثه - بأثمان باهظة في المستقبل.

فهم الأميركيون الرسالة، وبدأوا البحث عمن ينزلهم عن شجرة الأزمة، فنزلوا، وباعوا هذا الموقف "الإيجابي الاضطراري" لإيران، في إطار جرّها إلى تسوية شاملة، وكان الفرنسيون الخيار الأنسب... لماذا؟

يملك الفرنسيّون في لبنان، بحكم علاقتهم التاريخيّة بمسيحييه وبآل الحريري، قبولاً ومساحة تحرّك واسعة فيه لا يملكها الأميركيون، أضف إلى أن فرنسا هي الدولة الغربية الوحيدة من دول التأثير في لبنان التي لم تقطع طريق العودة مع حزب الله، ولم تضعه على لوائح الإرهاب، وهي التي تمتلك تجربة إيجابية معه عبر الرئيس الشهيد رفيق الحريري؛ مهندس تفاهم نيسان/أبريل 1996.

تقاطعت المصالح الأميركية الفرنسية في لبنان، فصراع النفوذ الفرنسي التركي الدائر اليوم على كامل مساحة الأبيض المتوسط الغني بالثروات الدفينة، جعلته كرقعة الشطرنج التي تتسابق الدول لبسط سيطرتها على أكبر عدد من مربعاتها، فمع ترجيح الكفة التركية في ليبيا، واشتداد الصراع بينها وبين اليونان، وجدت فرنسا في انفجار مرفأ بيروت الفرصة الأمثل لتثبيت لبنان كمنطقة نفوذ خالصة لها في إطار الصراع المتوسطي العام، ولاستثمار جزء مهم وإضافي من نفط شرق المتوسط الموجود فيه عبر شركة توتال، التي تأكَّدَت من وجود كمّيات كبيرة من الغاز في البلوك البحري رقم 4 بشكل خاص.

أشيرُ أيضاً إلى أن نجاح السيد ماكرون في حل الأزمة السياسية الاقتصادية في لبنان وتثبيت النفوذ الفرنسي فيه، سيعطيه دفعة داخلية تنقذه من مأزق انخفاض شعبيته المتسارع قبيل الانتخابات الرئاسية القادمة 2022، لما يملكه الشعب الفرنسي من ارتباط وجداني تاريخي بلبنان. أمّا حزب الله، فقد اصطدمت مساعيه الإصلاحية بعقبات جوهرية عطّلتها تماماً على مدى السنتين الماضيتين، أهمها الاعتبارات الطائفية والمذهبية المعقدة التي لم يستطع التعامل معها بحزم لشدة حساسيتها وخطورتها.

وفي ظل انقطاع السبل به، أتى ماكرون ليرفع العصا التي عجز الحزب عن رفعها، فوضع شروطاً للخروج من الأزمة تطابقت في مضمونها مع معظم ما أراده الحزب منذ سنوات ولم يستطع فرضه، بدءاً بتطوير الطائف حتى أصغر الملفات من كهرباء واتصالات وغيرها، ولوّح بسلاح العقوبات المالية على كل شخصيّة سيلمس تعطيلاً من قبلها، وهذا ما لا يمكن أن يمس الحزب ومسؤوليه، فتلقّف المبادرة الفرنسية بإيجابية، على قاعدة "بدنا ناكل عنب ما بدنا نقتل الناطور"، وخصوصاً أن السيّد ماكرون أثبت أنه قد درس الملف اللبناني جيداً، وهو الّذي استهلّ عمله في لبنان بالتأكيد على نظافة كفّ الحزب، وصدق مساعيه الإصلاحية، والتسليم بقوة قاعدته الشعبية، وتأكيد أهمية الشراكة معه لإخراج لبنان من الأزمة.

يبقى حزب الله مطمئناً إلى ما يجري، فهو يعلم علم اليقين أن الفرنسيين لم ينسوا 23 تشرين الأول/أكتوبر 1983، كما أن مصالحهم في لبنان (التي ذكرتُها أعلاه) تتطلب الاستقرار الطويل المدى في ساحتيه السياسية والأمنية، ليشكّل هذان العاملان ضمانتي الحزب على عدم سقوط الفرنسيين في مستنقع مواجهته في المدى المنظور. وكما يوجد في كلّ تسوية مستفيدون، فالمتضرّرون منها كثر، وعلى رأسهم الكيان الصهيوني وتركيا.

من الطبيعي أن يقلق الصهاينة من إطفاء النيران الداخلية التي تحيط بحزب الله في لبنان، ما سيساهم في تسريع نموّه وتطوّره العسكري بشكل دراماتيكي مرعب، وهذا ما يزيد الخطر الوجودي القادم إليهم من الشمال، والذي سيحاولون تداركه بكل الوسائل الممكنة التي لن تصل إلى الحرب المفتوحة، لعدم جهوزيتهم لها عسكرياً ومجتمعياً حتى الآن، ما يبقيهم الحلقة الأضعف في هذا الصراع. 

أما القلق التركي، فيأتي من استشعار الخطر في تثبيت النفوذ الفرنسي في بقعة مهمة من شرق المتوسط، والتي قطعت الطريق عليه تماماً، فمع السيطرة الروسية على الشاطئ السوري، والأميركية على الشاطئ الفلسطيني، والعلاقات المنقطعة مع الدولة المصرية، واشتداد الصراع مع قبرص واليونان، كان التركي يأمل توسيع سيطرته في شرق المتوسط عبر الساحة الممكنة الباقية، وهي لبنان، وظنَّ أنّه سيتمكَّن بانهيار البلد، وانتشار الفوضى فيه، وبوجود جماعات موالية له في أرضه، من تلوين مربّع في رقعة شطرنج المنطقة بألوان نفوذه، فأتت التسوية لتقطع عليه الطريق.

لا أرى أن التركي سيقف متفرجاً، بل سيحاول الضغط لإفشال الأمر، وهو الَّذي لا يملك سوى تحريك جماعاته بشكل أمني على الأرض، وهي لعبة أتقنها في ليبيا وسوريا، ولا يمنعه شيء عن تكرارها في لبنان، مع وجود مؤشرات على ذلك، تحدّثت عنها مراجع أمنية لبنانية على مدى الشهور الماضية، على رأسها وزير داخلية حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي.

إنَّ المرحلة المقبلة تشي بمواجهة تركية فرنسية في الساحة اللبنانية، تحكمها ظروف صراعهما على كامل مساحة البحر المتوسط، بالتوازي مع توجّهٍ أميركي لإخماد نيران المنطقة، جناحه الأول إنضاج تسوية شاملة تدريجياً مع إيران، تبدأ من لبنان، لتنتهي باليمن، مروراً بسوريا والعراق، ويستفيد منها محور المقاومة في لملمة الجراح وتمتين الصف، وجناحه الآخر هو استمرار مسار التطبيع بين بعض أنظمة الخليج والكيان الصهيوني، ما سيشدّد الضغط على الفلسطينيين، وهذا ما سيعطي الولايات المتحدة مساحة أوسع لمواجهتها مع الصين، في ظلّ هدوء نسبي، ولو كان مؤقتاً، في الشرق الأوسط، وسيعطي ترامب بطاقات رابحة في حملته الانتخابية القائمة.