المسيحيون إلى بيروت!
أعتذر لأنّني استخدمت معك كلمة "أنت". أما مع المسلمين الحقيقيين، أبناء سوريا، فقد اعتدنا أن نستخدم سوياً كلمة "نحن".
في بدايات الأزمة السورية، صرخ شخصٌ - بلحيةٍ وشكلٍ مخيف - أمام الكاميرات، وقال: "العلويون على التابوت، والمسيحيون على بيروت"، كما صرخ شابٌ بشكلٍ هستيري خلال هيجانٍ جنوني في مدينة حلب: "سنأتيكم في الأسبوع القادم يا أهل العزيزية"، وهو يلوّح بسكينٍ كبيرة، والعزيزية منطقة في مدينة حلب تقطنها غالبية مسيحية، وفيها العديد من الكنائس.
وتوالت الأحداث، وخرج من الذاكرة الكثير من مشاكل الماضي البعيد والخوف من الآخر، وربما هناك من اعتقد أن هؤلاء الموتورين والمتطرّفين من المسلمين يمثّلون كل المسلمين، وبدأ الخوف ينتاب المكون المسيحي، وأصبحت مجالس اللقاءات تتناول الأحداث وتفسّرها وتحلّلها، وتزيد من حالات الخوف المستتر، لتحيله إلى هلعٍ بصوتٍ متزايد، وتزايد تناقل المراحل السوداوية في تاريخ البلاد - وهي في غالبيتها صحيحة - وتراجعت الصفحات الناصعة من التآلف والتحابب.
كنت أستيقظ صباحاً في مدينتي حلب. وعلى مقربة قليلة، يرتفع علم "داعش" الذي شوّهوا كلماته ورمزه للسماحة، فأصبح في العالم أجمع يمثّل رمزاً للقتل والخوف.
هذا يقول: "يا أستاذ، الأمور واضحة. المتوكّل العباسي أمر بهدم كنائس المسيحيين، وبأخذ العشر من منازلهم. وإذا كان المنزل واسعاً، صودر وبُني دونه مسجد، وإن لم يصلح جعله أرضاً ممسوحة. يا أستاذ، هؤلاء أحفادهم".
ويقول الثاني مؤكّداً كلام الأول: "نعم، وأمر المسيحيين بوضع صور للشياطين على أبواب منازلهم، للتفريق بينهم وبين المسلمين. يا أستاذ، في الرقة وإدلب وضعوا حرف "نون" اليوم. وغداً، سيجبرونهم على وضع صور الشياطين".
ويتكلّم الثالث ويقول: "يا أستاذ، أمر المقتدر بأن لا يبقى أحدٌ من غير المسلمين في الوظائف. وغداً، سنصبح بلا عملٍ... تريدنا أن نبقى؟ يا أستاذ، سيمنعون أولادنا من التعلّم في المدارس، كما حصل في أيام المتوكل، الذي علّل ذلك بأنه يريد إعزاز الإسلام وإذلال الكفار".
بعدها، يتمّ النقاش حول: أين نذهب؟ كيف نذهب؟ ويبدأ الهروب وليس الهجرة، فالجميع يبحث ويفتّش في تلافيف دماغه عن أقارب ليسألهم ويستشيرهم. نعم، حدث هذا، وبقي الجمر مشتعلاً قروناً طويلة، وكانت النفوس تختزن والذاكرة تمتلئ. وأحياناً، كانت تخرج كلمات مندّدة بذلك.
مثلاً، كان المسيحي يشترك مع أخيه المسلم في مآدب الإفطار، وأقول وأصرخ بالفم الملآن: "مع أخيه المسلم". وفي مأدبة إفطار أقامها رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي، في 11 نيسان/أبريل 1957، لكلّ رؤساء الطوائف الإسلامية والمسيحية، قام البطريرك مكسيموس الصايغ قائلاً: "إنّنا، نحن المسيحيين، سكان وطننا السوري، لا نبخل بشيء، حتى بدمنا، في سبيل خدمته. ومع ذلك، نسمع من وقت الى آخر بأننا كافرون ومشركون... بل بالعكس، نحن قبلكم جميعاً نؤمن بوحدانية الله. وبفضلنا، انتشرت هذه العقيدة التوحيدية... هذا هو إيماننا. وأيضاً، نأسف أنَّ العروبة صفة يحتكرها المسلمون فقط".
أنت الذي تريد إخافتنا، وأنت الذي تريد ترحيلنا وذبح المكوّنات الأخرى، هل تعرف التاريخ؟ هل تتذكّر الآية 48 من سورة المائدة: {ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}؟ هل يندرج ترحيلنا وتخويفنا وذبحنا ضمن الخيرات؟
هل ستحذف سورة مريم من القرآن الكريم؛ هذه السورة التي حملها المسلمون المهاجرون معهم إلى الحبشة، لتشفع لهم عند النجاشي المسيحي، وقد تلاها جعفر بن أبي طالب في حضرته، فاحتضنهم وحماهم؟! أنت يا من تلوّح بالسكين والساطور، هل تعرف أننا نستخدم السكين في العمليات الجراحية لإنقاذ إنسانٍ، ومن دون أن نسأل عن دينه؟
للأسف، لقد جعلتمونا، نحن المسيحيين، غير واثقين بانتمائنا إلى أرضنا، فبات الكثيرون يبحثون عن أرضٍ جديدةٍ وبلادٍ جديدةٍ، ويفتخرون بأنهم أصبحوا من مواطنيها. أصبح لدى الكثيرين إحساسٌ بالخوف من المستقبل، لأن المجازر التي وقعت في أيام العثمانيين تتراءى أمامهم، وكأن المسلمين يستعدون لشنّ حملة اضطهادٍ على المسيحيين في أي لحظة.
أنت أيها الشاب الذي لوّحت بسكينك من دون أن تعرف أنَّ "هستيريّتك" أعادت الخوف والهلع إلى المسيحيين، وجعلتهم يأخذون بنصيحتك الجوهرية للهروب، لا إلى بيروت فقط، بل إن بيروت أصبحت محطّة للهجرة إلى جميع أصقاع العالم، بدلاً من أن تطمئننا، فإنك تخيفنا، ويعتقد المسيحيون بأنّ كلّ المسلمين سيخيفونهم.
أعتذر لأنّني استخدمت معك كلمة "أنت". أما مع المسلمين الحقيقيين، أبناء سوريا، فقد اعتدنا أن نستخدم سوياً كلمة "نحن".