الهندسة السكّانيّة لبلاد الشام والعراق: من السفر برلك إلى مأساة سوريا (2-2)
اعتبر بريجنسكي اللاجئين موضوعاً للتأجيج في الصراعات الدوليّة، وقال إن أميركا هي التي تُوزِع الصراعات وتديرها ولن تحلّها.
يمكن القول إن إنشاء الكيان الصهيوني في العام 1948 وتثبيته بواسطة شرعية فلسطينيّة في اتفاقية أوسلو في العام 1993، يعتبر أهم الفصول والأدوات في الهندسة السكانية للمنطقة، وكان ضمن استحقاقات سايكس- بيكو، فالكيان الصهيوني الذي تمكن في عدوانيّة الأعوام 1948 و1967 من طرد ملايين الفلسطينيين بقوة السلاح أو منعهم من العودة إلى وطنهم، عمل أيضاً على هندسة الفلسطينيين الذين بقوا فيها بوضعهم في معازل كبيرة وصغيرة: عرب 48 في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة، فصل القدس العربية عن محيطها العربي، والضفة الغربية التي يحيطها جدار كبير يحاصر معازل عديدة فيها أكثر من 600 ألف مستعمر يهودي وجيتو قضاء غزّة (...).
هذه المعازل قضت على التواصل السكاني بين قضاء غزة والضفة الغربية وعرب 48 من جهة، وأضعفت التواصل داخل الضفة الغربية وعرب 48، الأمر الذي يمكن القول إنه شلّ قدرات الشعب الفلسطيني على "الصمود" والتطور من جهة أخرى.
كذلك، قام الكيان باستجلاب ملايين اليهود من أركان الكون الأربعة، منهم أكثر من نصف مليون من العالم العربي، وأسكنهم بدلاً من عرب فلسطين. كما توّج الكيان هندسته بقانون القومية للعام 2018، الذي يعتبر أن عرب فلسطين وشرق الأردن سكاناً، وليسوا مواطنين/ (جوييم) في "أرض إسرائيل" التي تمتد من البحر المتوسط حتى أنبار العراق، وهي "وطن الشعب اليهودي" دون غيرهم من الذين يعيشون فيها.
ويمكن إدراج سياسته الأخيرة في مشروع ضم الضفة الغربيّة، لأنه سيعيد هندسة فلسطينيي الضفة الغربيّة في معازل جديدة لتزيدهم ضعفاً على ضعف.
ويمكن القول إن أبلغ حالة من عنف هذه القانون هي الصورة التي جمعت بنيامين نتنياهو مع بعض مشايخ الموحدين الدروز وضبّاط الجيش منهم يستعطفونه ليستثنيهم من القانون، إلا أنه رفض، ولسان حاله يقول: أشهد بالله أن أولادكم جنود مطيعون.. لكننا للأسف لا نصاهركم! وانضم مؤخراً إلى مشروع تفكيك فلسطينيي عرب 48 وهندسة نُخبه مجدداً نظام آل سعود، عندما أعلن في شهر أيار/مايو من العام 2019 أنه على استعداد لاستقبال قوى عاملة ومستثمرين منهم.
وبعد أيّام، نفى النظام هذا التصريح وهذا الموقف، لكن لو اكتفينا بالتصريح والنفي فقط، من دون خطوات عمليّة، لاكتشفنا كيف يتخذ مشروع الهندسة السكانية ألف أداة وأداة.
مع بدء الطفرة النفطية في الخليج في سبعينيات القرن الماضي، أقدمت "الأونروا" على إقامة كليّات تقنية في فلسطين والأقطار المحيطة، الأردن وسوريا ولبنان ومصر، لتأهيل أبناء الشبيبة للعمل كفنيّين، "وسهلت" انتقالهم للعمل في الخليج العربي.
لذا، يمكن إدراج هذا المشروع في إعادة هندسة القوى الفلسطينية الشابة. وبدلاً من التحوّل إلى مناضلين في الأقطار المتاخمة لفلسطين، تم تحويلهم إلى فنيين، وإبعادهم عن حدود فلسطين؛ حدود التماس مع "إسرائيل".
وفي ما بعد، تمّ استخدام هؤلاء العمّال وعوائلهم أدوات للضغط على الأقطار التي أُخرجوا منها. وما طرد فلسطينيي الكويت في العام 1991، وآلاف العمال المصريين والسوريين واللبنانيين أثناء الأزمات المختلفة، سوى تأكيد على دور هذه الهندسة وخطورتها.
ووفقاً لإحصائيات باتت مقبولة على النخب الفلسطينية، يبلغ عدد الفلسطينيين اليوم 13.5 مليون، يعيش منهم 8 ملايين في الشتات والمهاجر، والبقية في معازل وجيتوات في الوطن.
يُضاف إلى طرد الفلسطينيين من وطنهم، وإعادة هندسة بعضهم داخله، طرد أكثر من 100 ألف سوري من الجولان عندما احتل في العام 1967، فبعد احتلاله بعام واحد، العام 1968، حاول الكيان إقامة إقليم درزي، باقتطاع المناطق التي يسكنونها في كل من سوريا ولبنان، إلا أن حساباته كانت خاطئة بالمطلق عندما اختار لهذه المهمة الشيخ كمال كنج أبو صالح من مجدل شمس، وعضو مجلس الشعب السوري، وعميد الدفاع في الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي كشف الخطة أمام القيادتين السورية والمصرية، فأفشلوا المشروع... (من يرغب في قراءة قصة هذه المحاولة، يمكنه العودة إلى كتاب قصة الدولتين المارونية والدرزية لمؤلفه محمد خالد قطمة، 1985). ومحاولة إقامة كيان درزيّ بدأت إرهاصاته في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، والتي لم تهدأ في هذه المنطقة، وعادت مرة أخرى في العام 2011، عندما اختيرت درعا محطة أولى للعدوان وتفكيك القطر السوري.
ولتأكيد وجهة النظر التي تقول إن ما حدث في سوريا كان مدبراً سلفاً، يمكننا العودة إلى التقرير المُعنون "سيناريوهات الأردن 2020- السيناريو التصوري"، الصادر عن المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا، الجمعية العلمية الملكية [الأردنيّة] في العام 2003، وفيه يرى معدوه أن ضرب سوريا "بدأ بالتحول نحو التعدديّة الحزبيّة وتداول السلطة وكسر احتكار حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة في سوريا أولاً في العام 2008، نتيجة الضغوط الشعبيّة الدوليّة الرامية إلى كسر احتكار الحزب الواحد للسلطة، وبلغت الضغوط الشعبيّة أوجها بقيام تظاهرات في بعض المدن السورية بصورة متقطعة في العام 2007، وتلتها ضغوط أميركيّة وأوروبيّة اقتصادية وسياسية في الاتجاه نفسه، وكلّف الرئيس الأسد أحد القادة البعثيين الليبراليين بتأليف حكومة تمثل البعث والقوى السياسية الأخرى في البلاد، ومهدت لإجراء انتخابات نيابيّة عامة من دون تدخل من السلطة، حصل فيها حزب البعث على 40% من مقاعد مجلس الشعب السوري. وبذلك، دخلت سوريا مرحلة جديدة من عهد جديد من الحياة السياسية" (ص 188).
وعندما فشلوا في الضغط على الدولة والنظام، جهزوا 17 ألف مسلح سوري في درعا قبل بدء عدوان 2011 الذي بدأ فيها تحديداً، وهذا ما كشفه ضابط المخابرات الأميركية إدوارد سنودن في العام 2018، والذي يعيش حاليّاً في روسيا، فقد وجد سنودن ملفاً بهذا الشأن في وثائق (ويكليكس) تعود إلى العام 2011.
أما الأردن، فقد تم إنشاؤه كدولة عازلة تمنع أي اشتباك مباشر معها من قبل قوى قادمة من الشرق والجنوب والشمال الشرقي، كذلك عبر إعادة توزيع سكاني جديد، حيث يجري حاليّاً تحويل مخيّم الزعتري إلى مدينة تربط بين أربد والمفرق.
كما أشرت سابقاً، جاءت عملية اقتطاع الكيان اللبناني في العام 1946 وهندسته على شكل مربعات ومثلثات طائفية 1946، لإضعاف سوريا وتحويل لبنان إلى خنجرٍ في خاصرتها، تعمل القوى المعادية لها على تحريكه على مدار الساعة.
والكيان الصهيوني الذي ورث الانتداب لا يزال يعتقد - وفقاً لأخبار صحافية على الأقل - بضرورة إقامة كيان مارونيّ يكون جزءاً من مجاله الحيوي ضدّ سوريا والمنطقة، إلا أن جميع محاولاته السريّة والمعلنة منذ اجتياح الليطاني في العام 1978 باءت بالفشل...
ويمكن القول إن تفجير المفخخات الطائفية في العام 1976 على شكل حرب أهليّة دامت عقداً ونصف العقد، كانت الأخطر في سلسلة الانفجارات الممتدة في تاريخ رقعة هذه الطوائف.
ما يهمنا هنا ثلاث نتائج:
الأولى - نجحت الهندسية السكانية للبنان في إضعافه وإضعاف سوريا بتدخل الجيش السوري في العام 1976...
الثانية - اتخذت مفخخات الطوائف اللبنانية موقعها في المشروع التدميري ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان والدولة السورية.
الثالثة- يتناقل اللبنانيون أن عدد اللاجئين الذين هاجروا من لبنان من بداية القرن العشرين إلى اليوم يبلغ حوالى 11 مليوناً، بينما بقي فيه 4 ملايين فقط، أي كان من الفروض أن يكون عدد سكان لبنان 15 مليوناً، وليس أربعة فقط.
في كتابها "عدوّ عدوّي: العلاقات اللبنانية الصهيونيّة 1900- 1948"، تتحدث مؤلفته Laura Zittrain Eisenberg عن اهتمام الحركة الصهيونية المبكر في مجاميع الطوائف اللبنانية لاستمالتها في تثبيت مشروعها في فلسطين وتعزيز عدوانها ضدّ الأمة العربية.
والكثير من فصول هذه الاستراتيجية باتت معروفة للقاصي والداني منذ عدوان الليطاني في العام 1978، مروراً باحتلال جنوبه في العام 1982، إلى يومنا الراهن. أما فرقة بن غوريون الموسيقيّة، فلن تعزف أبداً، لأنها في أحسن الأحوال ستبقى واقفة على "إجر ونصّ".
في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 2019، انفجر في لبنان حراك مطلبيّ سرعان ما استدخلت إليه قوى تعمل على تجييره ضدّ مصالح اللبنانيين والمقاومة. كما ضمته أميركا إلى قانون قيصر الموجه ضد سوريا، وفرضت عليه العقوبات خدمة لمصالح "إسرائيل"، كما صرح (بومبيو) وزير الخارجية الأميركي.
في المحصلة المستمرة، يتسارع هبوط العملة المحلية وتهريب الدولارات إلى الخارج، وبات الجوع يهدد غالبية اللبنانيين. لذا، وبدلاً من أن تقاوم القيادة اللبنانية هذا الحصار، توجهت إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قروض، لعلّها تطفئ بعض لهيب هذه الأزمة. وقد علّق على ذلك وزير المالية اليونانية الأسبق يانيس فاروفاكيس، الذي خاض مفاوضات بلاده مع صندوق النقد الدولي، الذي هدد أركان حكومة اليونان حينها بقبول شروط النقد الدولي أو تنفيذ انقلاب عسكري سيكون أشرس من انقلاب (1967- 1974)، بالقول إن "برنامج لبنان مع صندوق النقد سينتهي بكارثة"، و"سيُهاجر معظم الشباب اللبناني، وخصوصاً الأكثر تعلّماً" (ليّا القزي، الإثنين 29 حزيران 2020، الأخبار اللبنانية).
وفي الرابع من شهر آب/أغسطس 2020، بعد يوم من انفجار ميناء بيروت، حذر الوزير اللبناني السابق ورجل الأعمال الحالي، فادي عبود، على تلفزيون المنار، قائلاً إنه إذا لم تسارع الدولة اللبنانيّة إلى إعادة بناء الميناء بسرعة، وتحويل الاقتصاد اللبناني إلى منتج، فسيهاجر نصف الشعب اللبناني.
في سياق المأساة السوريّة، تم دفع وتسهيل دخول حوالى مليون ونصف المليون سوري إلى لبنان، لتغيير التوزيع السكاني وتحويلهم إلى عبء على الدولة وضرب المقاومة اللبنانية.
العراق والشام (1990- 2020)
في القرن الحالي، الحادي والعشرين، واصلت هذه القوى مشاريع التفكيك التي بدأتها في القرن الماضي باحتلال العراق في العام 2003 وتفكيكه إلى 3 كيانات: شيعية وسنيّة وكرديّة، ومعازل عرقية وطائفية ومذهبية قاتلة.
كما عمدت إلى تجريف القيادة والنخب البعثيّة والكتلة السكانية المدينية التي تسهم في إقامة وإعادة إنتاج الدولة والمجتمع وتهجيرها بواسطة المفخخات والاحتراب الطائفي والمذهبيّ منذ العام 2006.
وكانت آخر محاولة في زيادة تشريع هذه الهندسة الاستفتاء الفاشل المدعوم من "إسرائيل" وحدها، والذي قام به الأكراد في منطقة كردستان في العام 2017.
قامت أميركا بإنشاء عصابة داعش الإجراميّة التي أقدمت على تجريف إثنيات وطوائف دينية أصلية في العراق، فقتلت وهجرت غالبيتهم إلى الخارج. هكذا تم إلحاق الأذى بالعراق وتخسيره أهم ميزة له في الكون: لوحة الفيسفساء السكانية المكونة من عشرات العرقيات والأقوام والإثنيات والطوائف وما تختزنه من تاريخ لها وللعالم.
بعد ذلك، بدأت عملية تفكيك سوريا في العام 2011 بدعوة الناس إلى الهجرة، وتجهيز أماكن لجوء في دول الجوار وفي أوروبا، فقامت بتجريف قوى الإنتاج في الأرياف وحلب (...)، وهي تمنعهم اليوم من العودة إلى وطنهم، كما يحدث لهم في لبنان.
وتم تهجير حوالى 7 ملايين من الشعب السوري، أي ما يعادل نصف عدد الشعب السوري، ناهيك بالمهاجرين الداخليين ومئات آلاف القتلى والجرحى من السوريين، ولا يزال النزيف السكاني مستمراً، وخسارة سوريا الحضارية والثقافية شبيهة بخسارة العراق.
يمكن فهم الأحداث التدميرية التي لا تزال تعصف في المنطقة من خلال خطّتين وردتا في تقريرين مهمين:
الأولى - الوثيقة التي أوردتها مجلة "كِفونيم" الإسرائيلية بتاريخ 13 حزيران/يونيو 1982.
والثانية - خارطة الدم التي أصدرها البنتاغون في العام 2004.
الوثيقتان تدعوان إلى إعادة تقسيم المنطقة على أيّ أساس من شأنه أن يضعفها ويبقيها تابعة لأميركا و"إسرائيل". تضمن الوثيقتان/ المشروعات تفتيت المنطقة الواقعة بين النيل والفرات في المفهوم اليهودي وإبقاء "إسرائيل" واليهود موحدين دون غيرهم من السكّان/ الجوييم.
بريجنسكي وإرهاق أوروبا باللاجئين
عند العودة إلى فهم أسباب تسيير قافلات ومهرجانات اللاجئين إلى أوروبا، وألمانيا تحديداً، علينا العودة إلى ما قاله بريجنسكي (1928- 2017)، مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر (1977 -1981)، والذي يعتبر من كبار منظري السياسة الخارجية الأميركية (إلى جانب هنري كيسنجر)، لنستحضر ما يلي:
اعتبر بريجنسكي اللاجئين موضوعاً للتأجيج في الصراعات الدوليّة، وقال إن أميركا هي التي تُوزِع الصراعات وتديرها ولن تحلّها. يرد هذا في كتابه المهم "رقعة الشطرنج" (1986). وبعد عام واحد، قال بضرورة إرهاق أوروبا بدفع قوافل اللاجئين إليها كي لا تنفك تبعيّتها لأميركا. وقد خصّ ألمانيا بالقول: "إن ألمانيا الصاعدة هي التي تستحق المراقبة والمتابعة بشأن طموحها وتطلعاتها، وليست الصين التي ينحصر همها في تحسين أوضاعها الاقتصادية" (تغيّر موقفه هذا في ما بعد).
من هنا نفهم أن المهاجرين السوريين كانوا ضمن هذا الموضوع، وأن القوافل والمهرجانات المُتلفزة ومخيّمات الاستقبال تمّ إعدادها سلفاً. هذا لا ينفي وجود مصلحة لألمانيا باستجلاب عمّال وكوادر علميّة أخرى، لأنها باتت تشيخ سكانيّاً، وليس بمقدورها الاستمرار بالريادة الأوروبية والعالمية.
وعلينا أن نذكر أن مواطني ألمانيا وتاريخها ليسا ودودين تجاه من هم ليسوا من العرق الآري والغرباء. في حزيران/يونيو 2019، أقدمت وزارة الأمن الداخلي على تفكيك وحدة من الشرطة، لأنها كانت تعجّ بالنازيين الجدد، وهي "عنصرية كامنة أيضاً لدى الشرطة الألمانية"، كما صرحت ساسكيا إيكسن زعيمة الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
بكلمات أخرى، إن إعادة هندسة بلاد الشام العراق سكانيّاً بتجريف مواطنيهما ونخبها وقوى إعادة إنتاجها، كانت وستظلّ مطلباً من أجل إضعاف المنطقة في مواجهة "إسرائيل" وأعدائها الخارجيين والداخليّين.
نجمل: لا حياة لبلاد الشام إلا بوحدتها، ولا سبيل لتطورها إلا بوحدتها مع مصر المستقلّة عن التبعيّة.
أختم بما يلي: ما دامت سوريا لا تزال وستبقى مُستهدفة من الأعداء إلى أن تنتصر، أرى ضرورة منح جنسيّتها لأهالي كل بلاد الشام ومن ينحدر منها في القرن، لتكون دلالة رمزية على ضرورة استعادة وحدتها الجغرافية والسكانيّة.