الهندسة السكّانيّة لبلاد الشام والعراق: من السفر برلك إلى مأساة سوريا
تحليل حول تهجير ملايين العرب بالعنف من بلاد الشام والعراق في القرن الأخير، منذ السفر برلك خلال العامين 1914- 1915، إلى ما يجري في سوريا منذ العام 1911، إلى يومنا الراهن (2020)، بالاعتماد على مدخل الهندسة السكّانيّة.
طرحت قوافل اللاجئين السوريين المتلفزة بين الأعوام 2015 – 2018، والذين كان يُسار بهم على الأقدام في الشوارع إلى بعض الدول الأوروبية، وصور بعض قادتها وهم يستقبلونهم ويتبادلون أطراف الحديث معهم، طرحت التساؤل البسيط: ماذا يحدث؟
لكن بعد التوقف والانقطاع عن متابعة تلك المسيرات، بدأ خليط من الصور والمعلومات التي تتحدث عن تاريخ أوروبا الدموي، من مثل عمليّات الإبادة التي قامت بها في الفترة الاستعمارية في أفريقيا وآسيا، وصار يطفو على سطح الذاكرة المعرفيّة قيام ألمانيا النازية، بمساعدة بعض الأنظمة والعصابات في أوروبا، بإبادة أعداد كبيرة من مواطنيها، لتؤكد للمعنيين أن الأمر ليس بهذه البساطة، فأوروبا لم تكن ولن تكون الأم الرؤوم للاجئين الغرباء.
لذا، علينا استخدام منهج التكليف لفهم أسباب وتداعيات استقدام - استقبال اللاجئين السوريين (وغيرهم) على هذه الصورة من الساديّة البورنوغرافية التي تظهرها وسائل الإعلام التي روّجت للتهجير، ويستمتع بها مخططو العدوان على سوريا وأدواته وكل الليبراليين الذين أنتجوا مأساة هؤلاء اللاجئين وساهموا فيها.
في هذا المقال، سأقدم تحليلاً وتفسيراً لتهجير ملايين العرب بالعنف من بلاد الشام والعراق (الهلال الخصيب) في القرن الأخير، منذ السفر برلك خلال العامين 1914- 1915، إلى ما يجري في سوريا منذ العام 1911، إلى يومنا الراهن (2020)، بالاعتماد على مدخل الهندسة السكّانيّة التي تهتم بتوزيع الناس والسكان المختلفين على بقعة أو بقاع من الأرضي، ضاقت أم اتسعت مساحتها، و/أو تحويل مجموعات سكانيّة دينية، إثنية أو قوميّة، تعيش في مواطنها، إلى بؤر صراعات وتوترات مختلفة كمجموعات وظيفية، وفقاً لأجندات جيوسياسية أو استراتيجية.
تتم هذه الهندسة في المناطق الجغرافية التي يشكّل السكان فيها كتلة فاعلة وحاسمة، شرط أن يتم تفعيلها في السياق الجيواستراتيجي لصالح الأمة أو المشاريع المعادية لها، كذلك التقليل من عددهم بواسطة الحروب والإبادات وهندسات المجاعة والإهمال الصحّي والطبيّ، وتنظيم الأسرة، والحدّ من النسل، وتشجيع الشذوذ الجنسي، والقنابل الديموغرافية، عن طريق تحويل جماعة من طائفة إلى أخرى.
عن كل جزئية من هذا الموضوع، يجد المختصّ أو القارئ آلاف الدراسات الحصيفة والرصينة. كما يمكننا قراءة "مذكرة دراسات الأمن القومي: آثار النمو السكاني في جميع أنحاء العالم في أمن الولايات المتحدة ومصالحها ما وراء البحار ) Implications of Worldwide Population Growth For U.S. Security and Interests. Distemper 1974)، والتي عُرفت في ما بعد بتقرير كيسينجر، الذي يتحدث فيه عن ضرورة تقليل عدد سكان الكرة الأرضية إلى حوالى ثلثي عددهم، ويوصي بضرورة خصخصة مياه الشرب كأداة مركزية في هذه الجريمة (يمكن أن ندرج سدّ النهضة في هذا الباب، وسنتطرق إليه في مقال مستقل).
في ما بعد، تمّ تحويل ملف مياه الشرب إلى صندوق النقد الدولي وإلى "USAID" التابع لوكالة الاستخبارات الأميركي(C.I.A) ، وهما يعملان على ضرورة خصخصة مياه الشرب وزيادة أسعارها.
وفي فلسطين، يتبع اليهود استراتيجية منع مياه الشرب عن العرب في الضفة وغزة. وما إقامة اتحادات المياه الخاصة في الأرض المحتلة 1948، وتحويل ملفات الذين يتخلفون عن دفع أثمانها إلى شركة جباية خاصة، إلى درجة ضجّت المحاكم من سلوكها الذي يكاد يصبح جنائياً، سوى جزء من هذه الاستراتيجيّة.
استدراكاً، هذا لا يعني عدم وجود أسباب ورغبات داخلية للهجرة تقاطعت مع العوامل الخارجية. أعتقد أن الهجرة والتعاشر الطوعي بين الأقوام والثقافات ضروري، إلا أننا نتحدث هنا عن الأسباب الخارجية للهندسة السكانية والتهجير.
مصر وبلاد الشام
تنبع أهمية الهلال الخصيب من كونه يحد كلاً من إيران شرقاً، وتركيا شمالاً، والبحر المتوسط غرباً، ومصر جنوباً، أي من جبال طوروس شمالاً إلى البحر الأحمر جنوباً. إذاً، هو يتوسط العالم. ومن يُسيطر على هذه المنطقة يمكنه السيطرة على خطوط اتصال وتواصل تربطه مع كل العالم.
وكي يتم تفكيكه والسيطرة عليه، يجب إنشاء بؤر توتر وصراع داخله ومع جيران الحيّز الجيوثقافي، مثل قضم الأطراف، وتأجيج الهويات الهامشية لسكانه، وتشتيت المركز، وإفراغه من عناصر وحدته السكانيّة بالتهجير والاحتراب الداخلي، وهذا ما يحصل بشكل مُمنهج منذ أن حلّت قوى الاستعمار الجديد، بريطانيا وفرنسا، ثم أميركا، بدلاً من السلطنة العثمانية النهبويّة.
إضافةً إلى ذلك، فإن الهلال الخصيب يتاخم مصر عند نقطة أصبحت الأكثر سخونة في العصر الحديث، ألا وهي فلسطين المُستقلة أو المُحتلة، وهذا يُعد مصدر قوة أو ضعف، فوحدة واقتطاع فلسطين من جنوبي بلاد الشام لا يزال المشروع الاستراتيجي الأخطر لإضعافها، منذ أن أقدم البدوي ظاهر العُمر في بداية القرن الثامن عشر على اقتطاع ولاية عكّا من السلطنة العثمانية، وتحويل مرجها إلى ميدان تستغله الشركات الفرنسية لزرع القطن بدلاً من القطن المصري، وضرب زراعته في مصر، علماً أنه شكّل الرافعة للبرجوازية المصرية.
وعندما نذكر ظاهر العمر، يتوجب علينا ذكر كل من الألبانيين محمد علي وابنه إبراهيم، وحملتهما على الشام من أجل توحيدها مع مصر في العام 1831، فالدول العظمى التي ساندت ظاهر العمر هي التي حاربت طموح محمد علي باشا الذي كان جيشه يتقدم باتجاه إسطنبول، وكاد يحتلها في العام 1839.
هذه الواقعة تشكّل عقدة لدى النُخب التركية إلى يومنا الراهن، وتحديداً السلطان القادم رجب طيب إردوغان. وما علاقاته العسكرية مع "إسرائيل"، ومساعدته إسلاميي غزّة، ومحاولة انتزاع ليبيا من حيّزها العربي، سوى تتويج لهذه العقدة ومحاولة لتجاوزها.
كذلك، حاربت ابنه إبراهيم في العام 1840، وشاركتها في ذلك الدول الاستعمارية الأوروبية على ضرب جيشه في العام 1860، عندما كانت تنتظر انهيار "الرجل المريض".
ومع تفاقم صراع السيطرة على بلاد الشام والهلال الخصيب برمته، تحوّلت هذه المنطقة إلى الأكثر سخونة ودمويّة في العالم في إطار مشروع الهندسة السكانيّة. نذكر هنا أن محمد على باشا وجيشه المصري أنقذ السلطة العثمانية مرتين: عندما قضى على المتمردين الوهابيين في نجد (1811- 1815)، وتمرد الأسطول اليوناني (1822- 1827).
سايكس- بيكو: الأحواز والإسكندرون ولبنان
على خلفية ما تقدم، افتتحت القوى الاستعمارية القرن الحالي والسابق بسلسلة من الأعمال العدوانية ضدّ هذه المنطقة التي تشكل الأكثر صلابة في النزعات والمشاريع العروبيّة، أقصد الهلال الخصيب، فقوى الاستعمار الجديد في القرن السابق لم تكتف بتفكيك السلطنة العثمانية، بل عمدت إلى تفكيك الأمة العربية وأراضيها إلى كيانات تحمل فيروسات تفجيرها وانفجارها عند الطلب.
تم افتتاح القرن العشرين بمشروعين عدوانيين يندرجان في باب الهندسة السكانية، وأسهما إسهاماً كبيراً في هندسة الهلال الخصيب سكانيّاً، الأول هو السفربرلك. ونتيجة للقمع واستيلاء العثمانيين على المحاصيل الزراعية لبلاد الشام، من حبوب وكروم الزيتون، وتجنيد رجالها في حربها للدفاع عن الأناضول ضدّ الدول الاستعمارية في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، انتقلت مجموعات سكانية عديدة إلى مناطق أكثر هدوءاً وأمناً داخل مواطنها. كما هاجرت مجموعات أخرى إلى الأميركيتين، أميركا اللاتينية تحديداً، إذ يبلغ عدد الأميركيين اللاتينيين الذين ينحدرون من أصول عربيّة في هذه القارة حوالى 40 مليوناً، منهم 400 ألف فلسطيني كانوا قد تقدموا بطلب الحصول على الجنسيّة، وفقاً لقانون الجنسية الذي أصدره الانتداب البريطاني في العام 1925، إلا أنه رفض. (يمكن العودة إلى دراسة نديم بوالصة، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة بير زيت
)“Legislating Exclusion: Palestinian Migrants and Interwar Citizenship”, Journal of Palestine Studies Vol.46 No. 2-Winter 2017).
الثاني هو اتفاقية سايكس بيكو للعام 1916، والتي قامت بتقسيم الهلال الخصيب إلى مناطق نفوذ بين الاستعمارين الفرنسي والبريطاني. هذان المشروعان لا يزالا المُحركين الأساسيين لهجرة وتهجير سكان المنطقة واستدعاء الصراعات الطائفية والإثنية والقوميّة المختلفة.
ومن تداعيات سايكس بيكو، أقدم الاحتلال البريطاني في العام 1920على تسليم الأحواز العراقية لإيران. وبعد عقدين، أقدم الاحتلال الفرنسي في العام 1938 على تسليم لواء الإسكندرون الشامي لتركيا.
وبهذا، وضع الاستعماران المذكوران الأمة العربية في صراع مستمر ومواجهة مفتوحة مع جارين من الحيّز الجيوثقافي نفسه، واللذين من المفروض أن تكون مصالحهما مشتركة في مواجهة العدوان الخارجي والتحديات الاجتماعية والسياسية الداخلية.
في ما بعد، طوّر رجل الاستخبارات الأميركية والأكاديمي برنارد لويس (1916- 2018) مبدأ احتواء إيران وتركيا احتواءً مزدوجاً لضرب سوريا لخدمة الكيان الصهيوني، حيث أصبحت تركيا قوة أساسيّة في العداء للمصالح القوميّة العربيّة، بدءاً من حلف بغداد في العام 1956 (مندريس)، إلى ما تقوم تركيّا الإردوغانية في سوريا وليبيا وفلسطين.
نذكر هنا أن مصر عبد الناصر كانت أرسلت في العام 1957 قوات إلى الحدود السورية التركية لردّ أي عدوان تركي مُحتمل. وما محاولة الوحدة بين القطرين (1958- 1961) إلا محاولة لتدارك الخطر التركي - الصهيوني. ولا يزال ملفّا كل من الأحواز والإسكندرونة مفتوحَين، ولا سبيل لحلّهما حلّاً إيجابيّاً إلا بتفعيل عناصر وحدة شعوب وأمم المنطقة لتجاوزهما ومقاومة العدو الكلاسيكي - المعاصر.
يندرج اقتطاع لبنان في العام 1946 بإقدام الاستعمار الفرنسي على اقتطاع 225 كيلومتراً بعرض 45 كيلومتراً من ساحل بلاد الشام، وتحويله إلى لبنان الحالي ضمن الهندسة السكانيّة، حيث هندسه - فخخه بالنزاعات الطائفية والعنصرية الداخليّة والفوقية تجاه سوريا والسوريين، وحوّله إلى خنجر مؤلم في الخاصرة السورية، فنزاعات الطوائف اللبنانية أتعبت، ولا تزال، الشام كثيراً، لأنها تحرك هذا الخنجر في الخاصرة السورية، وهذا ما خطط له أصلاً، ناهيك بحرمان سوريا من هذه المنطقة الساحليّة الاستراتيجية التي تكشفت خطورتها باستجلاب الإرهابيين وعتادهم عبر هذه السواحل وإدخالها إلى سوريا في مأساتها الحاليّة.