لبنان بلد الأذكياء والأقوياء.. فهل يكون بلد الحكماء؟

وحدها "المقاومة" التي قدّمت حلاً موضوعياً بعيداً من التسييس، حيث طرح "سيّد المقاومة" وصفتين سحريّتين تحاكيان جوهر الأزمة، وتنفذان إلى حقيقة الموضوع الاقتصاديّ.

  • وحدها
    وحدها "المقاومة" قدّمت حلاً موضوعياً بعيداً من التسييس للوضع الاقتصادي المتردي في لبنان

ما من بلد في العالم إلا وله نصيب من الأزمات، كيف لا وولادة الكيانات لم تأتِ إلا من هذا الرحم، ولم تستحق وسام الحياة إلا بعد معاناة طويلة ومستمرّة على طريق إثبات الهويّة والانتماء في البعد الثقافيّ، وتعزيز المنعة الوطنيّة في البعد الأمنيّ، وتنشيط دورة الإنتاج، والإنفاق في البعد الاقتصاديّ، وانتهاج نظام محدد في الإدارة والحكم في البعد السياسيّ!

وبعيداً من الإيديولوجيا، وهي المجال النظري الذي تتحرك فيه تلك المفردات المجتمعيّة، وتتبلور فيه المعاني نفسها التي ذكرناها، وإنْ بطريقة انحيازيّة، وعلى كل الأحوال، إن لبنان واحد من الكيانات البشريّة التي سلكت تجربة الحياة، وتعيش حالياً تجربة التطوّر على كل أصعدة الاستحقاقات المصيريّة الثقافيّة والأمنيّة والاقتصاديّة والسياسيّة.

في لبنان، تظهر الأزمات، وتشتدّ حيناً وتعصف أحياناً أخرى، ولكن من غير الصحيح - في وقتنا الحالي - تسليط الضوء على المسائل المرتبطة بالقضيّة الثقافيّة، فلبنان صاحب الإرث الثقافي الفريد والبصمة الخاصّة التي يتركها أبناؤه أينما حلّوا في العالم، من الصعب أن يعاني أزمة هويّة وانتماء، كما يحدث في بعض الكيانات اللقيطة مثل "إسرائيل"، أو تلك التي قفزت - بمعيّة الاستعمار - من حالة القبائل المتناحرة إلى حالة "الدول" التي تتمتع بموقع جيوسياسي واقتصادي يخدم الاستعمار، ويسعى إلى التطبيع مع مغتصبي الأرض والمقدسات.

إن لبنان، بفضل مقاومته التي شكّلت تجربة فريدة للمنعة الوطنيّة، انطلاقاً من مجتمعه المدنيّ، استطاع - بعناية وذكاء - إرساء تلك المعادلة الذهبيّة "الجيش والشعب والمقاومة"، وبات قادراً على الانطلاق منها لتعزيز منعته في الداخل والخارج، ومواجهة كل الاستحقاقات الأمنيّة لبلد يحتاج أولاً إلى تأمين التوازن مع "إسرائيل" المحتلّة، من خلال تعزيز منظومة الردع، وثانياً إلى قطع الطريق على الأطراف الخارجيّة المستغلّة لموقعه الجيوسياسي، وذلك من خلال وحدة الصفّ ومنعة الموقف، وثالثاً إلى تفويت الفرص على بعض الأطراف الداخليّة الساعية لإيجاد انقسامات حول مسائل وطنيّة، وصولاً إلى خلق قضايا توحي بضعف الكيان الوطني أمام تدخّلات الخارج، وذلك عبر تثبيط كل أشكال البروباغندا الإعلاميّة و"العهر" السياسي.

أما في الاقتصاد، حيث عصفت الأزمة مؤخراً، وكثر الكلام عن ضرورة إيجاد الحلول "بسرعة وقبل الانهيار المدوّي"، فقد قدّمت بعض الأطراف الداخليّة والخارجيّة وصفاتها للحلّ، والتي جاءت لتقارب مسائل سياسيّة بعيدة من الارتباط المباشر بأسباب الأزمة الاقتصاديّة، الأمر الذي أعطى انعكاساً حقيقياً لصورة الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة بأنها في الواقع أزمة سياسيّة بامتياز، فكلما اشتدّت وثقلت الأعباء على كاهل المواطن، تنطّحت أطراف داخليّة لربطها بسلاح المقاومة، وحجم التمثيل، وصلاحيّة الحكومة... وكلَّما اقترب موعد الانهيار ازدادت العقوبات الأميركيّة، وكثر الكلام عن شروط "سيدر" والمعابر البريّة وترسيم الحدود البحريّة.

وحدها "المقاومة" التي قدّمت حلاً موضوعياً بعيداً من التسييس، حيث طرح "سيّد المقاومة" وصفتين سحريّتين تحاكيان جوهر الأزمة، وتنفذان إلى حقيقة الموضوع الاقتصاديّ، حملت الأولى عنوان "التوجّه شرقاً، وليس فقط غرباً"، فيما حملت الأخرى عنوان "تنشيط الدورة الاقتصاديّة من خلال إحياء القطاعين الزراعيّ والصناعيّ".

ببساطة وموضوعيّة، اعتبرت المقاومة أن جوهر الأزمة - السياسي طبعاً - يحتاج إلى حلّ من السنخ نفسه، فانطلقت في مقاربة الحلّ من عاملين، الأول موقع لبنان الجيوسياسي كبوابة للشرق على البحر المتوسط، والآخر ضعف الكيان اللبناني مقابل الكيانات الدوليّة، والتي يعني لها هذا الضعف إلزاميّة اختيار هذا الموقع كموطئ قدم للتدخّل السياسي في شؤون المنطقة.

مرّة جديدة، يستطيع "سيّد الحكمة والمعادلات" قيادة الأزمة وصناعة الحلول، فبعد معادلة الردع التي جمّدت دور كيان العدوّ في المنطقة، وغدا عبئاً على أسياده في واشنطن، جاءت معادلة "الجيش والشعب والمقاومة" التي قدّمت للعالم أجمع أنموذجاً جديداً للتكاتف الوطني، وسبيلاً متطوراً لزيادة المنعة الوطنيّة. أما الآن، فنحن أمام معادلة جديدة استطاعت بكلمتين - هما التوجّه شرقاً - تحويل التهديد إلى فرصة، وخلق واقع جديد مختلف يجعل من لبنان محطة للتنافس الدوليّ، لا مسرحاً لتدخلات طرف دون طرف آخر.

بهذه المعادلة، يستطيع لبنان إخلاء الساحة أمام الحلّ الموضوعيّ الذي يحاكي حقيقة الوضع الاقتصادي، وهو إحياء القطاعات "التي أريد لها أن تكون ميّتة"، فتكتمل بذلك الدورة الاقتصاديّة. وعندها، يمكن الكلام عن السياسات الاقتصاديّة التي سينحصر دورها في تنشيط دورة الاقتصاد كعمل جهات متخصصة اقتصادياً، لا في إيجاد وخلق تلك الدورة كعمل جهات متخصّصة سياسياً.

نعم، لقد استطاعت المقاومة - بكلمتين - إجبار أطراف التدخل الخارجي على التنحي جانباً، فها هو لبنان وقد تمّ استثناؤه من عقوبات "قيصر"، وها هي الطريق قد فتحت ذهاباً عبر الأردن، وإياباً عبر معبر "البوكمال"، وها هو الرئيس الفرنسي يأتي بقدميه محمّلاً بوعود ليس أقلّها تسهيلات "سيدر"، كما يجب أن لا ننسى المساعدات الطبيّة والتنافس الحاصل على إعادة إعمار بيروت والمرفأ.

كلّ هذا لم يأتِ تفضّلاً من أطراف ترقص على جراحات اليمنيين، كما رقصت على جراحاتنا سابقاً، بل بفضل تلك المعادلة الجديدة التي ندعو اللبنانيين إلى أن يعوها جيداً، وأن يتعاطوا معها بحكمة ومسؤوليّة، كما فعلوا مع المعادلتين السابقتين؛ معادلة الأمن الخارجي ومعادلة الأمن الداخلي.

ها نحن وصلنا إلى جوهر الأزمة اللبنانيّة الأساسيّ؛ الأزمة التي لا يختلف اثنان على أنها أزمة سياسيّة بالدرجة الأولى، ولكن قبل الاسترسال في المقاربة، يجب أن نلفت الانتباه إلى مسألة مهمة، هي أنه في الكيانات الضعيفة نسبة إلى محيطها القوي - ولبنان نموذجاً - من الطبيعيّ أن تنشأ الأزمات السياسيّة إثر التدخلات الخارجيّة، والتي تعمد عادة إلى تغذية الانقسامات الداخليّة تحت عناوين ومسميات لديها ارتباط شكليّ بالإدارة والحكم، ولكنها فارغة المضمون وذات حجم أكبر من واقع الأزمة الحقيقيّ، وهنا تبرز أهميّة استخدام البروباغاندا الإعلاميّة كأداة استعماريّة عصريّة شهدناها مؤخراً في عدة ساحات، وخصوصاً تلك التي انتهت "بثورة ملوّنة" أدت أو كادت تؤدي إلى قلب المشهد السياسي، تماماً كالذي حصل في أوكرانيا ولبنان وعدّة دول أخرى.

في لبنان، ظهر جليّاً أن الاستمرار باللعب على أوتار الإعلام وتشويه الحقائق لتغذية الانقسامات هو تكتيك استعماريّ غير ذي جدوى، وقد بات من الواضح مدى اقتناع أطراف التدخّل الخارجيّ بضرورة التخلي عن هذا الأسلوب لصالح أسلوب آخر طرحته زيارة "ماكرون" الأخيرة، حيث ما لبث - بحسب الكثير من الوقائع والتحليلات - أن تلقّفه الأميركيّ، ويبدو أنه ماضٍ به قدماً، تاركاً خلفه الطرف الفرنسي والأوروبي بلا نصيب من تلك الساحة.

وكي لا نستبق الأحداث التي دخلت على خطّها متغيرات جديدة، ليس أقلّها الحضور الأوروبي والاستعداد التركي للتوثّب، ناهيك بالسّعي الصيني للتوسّع الاقتصاديّ عبر البوابة اللبنانيّة باتجاه إعمار سوريا، وعزوف أطراف عربيّة عن ممارسة أدوارها التقليديّة، وعلى كلّ حال، وبانتظار جلاء الصورة، لا بد من التأكيد على أمرين مهمين بات الحديث عنهما ضروريّاً أكثر من أي وقت مضى:

الأمر الأول هو ضرورة أن تعي أطراف الحلّ الداخليّ أن ما تقدمه من طروحات لحلّ المسألة السياسيّة، يجب أن لا تخرج عن دائرة الطرح، إن لم ترقَ إلى مستوى الحلّ، بمعنى آخر، إن لم تلقَ الإجماع الوطنيّ الكافي الذي يتوافق مع غالبيّة الآراء، وتتحقق فيه طموحات الجهات السياسيّة والدينيّة كافة، إضافة إلى الرأي العام الشعبي الذي أصبح له حضوره الوازن مؤخراً.

نعم، إن أي أطروحة لا تراعي طبيعة التركيبة السياسيّة والاجتماعيّة اللبنانيّة ستكون عقيمة، ولا يمكن السّير بها على طريق الحلّ إن قامت على مبدأ تحييد الأحزاب والجهات السياسيّة، كما حصل مع حكومة الرئيس حسّان دياب، أو على مبدأ تهميش الرأي العام الشعبي، كما حصل مع حكومة الرئيس سعد الحريري، أو تلك التي بدأت تسوّق لرؤيتها التي تتنكّر لدور الجهات الدينيّة كجهات أساسيّة فاعلة في المجتمع وركن حقيقي من أركان الحلّ السياسيّ الوطنيّ.

الأمر الثاني هو ضرورة التنبّه إلى خطورة الموقف، لجهة التطورات التي جاءت في أعقاب المتغيرات الإقليميّة والدوليّة الأخيرة، حيث التنافس الواضح على الحضور الأمنيّ والسياسيّ في منطقة حوض البحر المتوسط لكل أطراف النزاع الإقليمي (تركيا ومصر والاتحاد الأوروبي وكيان العدوّ) والدوليّ (الولايات المتحدة وروسيا والصين)، والتي إن أردنا على ضوئها النظر إلى انفجار مرفأ بيروت على أنه أبعد من حادث، لكان استبعاد فرضيّة العمل الأمنيّ هو قصور في التحليل السياسيّ في ضوء المتغيرات وبلحاظ الزمان والمكان.

وهنا رسالة إلى بعض أطراف الداخل، ودعوة للعودة إلى حضن الوطن، والكفّ عن الارتهان للخارج، والتحلي بالحكمة، فلبنان الذي استطاع تخطي أصعب المراحل وأكثرها حساسية، إن كانت على صعيد أمني أو اقتصاديّ، سيمضي بكم أو من دونكم لخوض استحقاقه السياسيّ في أعتى ساحات النزاع الإقليميّة والدوليّة. 

لذا، حذار أن تجعلوا من أنفسكم وقود ذلك التحدّي وتلك الأحداث التي يمكن أن تحصل، أو بالحدّ الأدنى، أن تنأوا بأنفسكم جانباً قبل أن يتنكّر لكم التاريخ وينبذكم الوطن.