دوافع انتفاضة محرّم شرق الجزيرة العربية.. ماذا حدث عام 1979؟
قام النظام بفرض حصارٍ فكريٍ وثقافيٍ رهيبٍ على الشعب، ومنع كلّ ما هو على غير نهج النظام ورؤيته، وأقرَّ مصدراً واحداً للفكر هو الفكر الوهابي.
إنَّ انتفاضة المحرم (1400هـ - تشرين الثاني/نوفمبر 1979م) في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية، حدث لا يمكن أن يكون عفوياً، أو يكون ظاهرة حماس مؤقتة وتجمعاً عاطفياً وقع في العشر الأوائل من شهر محرم، وانتهى في حينه، بل هي تراكمات ونتيجة لمجموعة عوامل كانت تحيط بالمجتمع.
ولا يجب النّظر إلى هذا الحدث على أنه حدث طارئ انتهى بقمعه من قبل قوات الأمن، بل لا بد من النظر عند محاولة فهمه وتحليله إلى كل العوامل السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك في الجزيرة العربية، والمنطقة الشرقية منها على وجه الخصوص.
إنَّ انتفاضة المحرم الجماهيرية كانت نتيجة تفاعل الجماهير المضطهدة والمظلومة مع عدة أسباب داخلية كانت قد تراكمت في نفوس الجماهير على مدى عقود، إلى أن نضجت ظروف انفجار هذا التفاعل على شكل انتفاضة جماهيرية عارمة.
لقد كان الواقع الَّذي تفجَّرت فيه انتفاضة المحرم المجيدة لا يختلف كثيراً عن واقع الدول غير الديموقراطية التي حدثت فيها ثورات وهبات جماهيرية، وأيّ دولة تفتقد إلى النظام الديموقراطي العادل. وقد تمثَّل انعدام الحرية وغياب الإرادة الشعبية في القرارات الحكومية، ومصادرة الإرادة الشعبية في التشريع، وفي وجود قضاء موجه، وسيطرة وتوظيف كامل للأجهزة الأمنية لمعاقبة المعارضين السياسيين أو حتى أولئك الذين يطالبون بحقوقهم العادلة والمشروعة.
وقد أفرز هذا الواقع الذي مضى عليه عقود استمرار الفساد المالي والإداري، وتأصل الدولة الأمنية، ومصادرة حقوق المواطنين الطبيعية التي كفلتها كل المواثيق والعهود الدولية. كما تفاقمت سياسة التمييز، وشيّدت الدولة على أساس التمييز القبلي والطائفي والمذهبي، وتمّ تهميش المواطن في مختلف المناطق، وجرى العمل على تكميم أفواه المعارضين السياسيين، ومنعت فئات من المواطنين، أغلبهم من المواطنين الشيعة، من الالتحاق ببعض الوزارات أو تسلّم مناصب عليا في الدولة، في تعبير جليّ عن التمييز الصارخ الذي كانت السلطات السعودية تمارسه ولا تزال.
ونتيجة لغياب مبدأ محاسبة الحكومة، اتسم عمل الأخيرة بالقصور الشديد، ففشلت في تنويع مصادر الدخل والاستجابة لمتطلبات المواطن، فنشأت أزمات السكن والبطالة، وازدادت مساحة الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر، وتراجع المستوى التعليمي، وساد الفساد المالي والإداري في جميع جوانب العمل الحكومي، ما انعكس سلباً على الخدمة الممنوحة للمواطن.
وفي ظل هذه الحكومة غير المنتخبة، تحوّلت ملكية الأراضي والسواحل والشواطئ والبحار إلى ملكيات خاصة لكبار أفراد العائلة المالكة وكبار النافذين، ما أدى إلى استفحال مشكلة فقدان الأراضي لاستخدامها في المشاريع الإسكانية والبلدية والمشاريع التعليمية والصحية والصناعية وغيرها من متطلبات الدولة.
كانت الأمور تُدار بعقلية البداوة والاستعلاء النفسي، فمنذ أن استولى عبدالعزيز آل سعود على السلطة بطريقة دموية في كانون الثاني/يناير 1902، عمل على إخضاع الناس بالقوة إلى طموحاته وأهدافه التوسعية، وكان يرى أن كل الأمور يجب أن تجري بمشيئته، ويؤمن بأنَّ أهدافه في السيطرة والتوسع وإخضاع الناس لإرادته، لا يمكن أن تتحقَّق إلا من خلال السيف، فكان الفقر والبطالة والتمييز سمات النظام، ومن يعترض على هذه السّياسات، فإن مصيره إما غياهب السجون وإما القتل تحت طائلة القوانين البدوية التي وضعها النظام لتثبيت حكمه. وبالقمع والإرهاب، شيّد النظام السعودي، وجُعل نظاماً ملكياً ووراثياً وفردياً مطلق الصلاحيات.
إن أحد عوامل تفجّر الانتفاضة هو أن النظام السعودي ليس له رصيد من مقومات الدولة الحديثة التي أساسها الحرية، والعدل، والمساواة، وتكافؤ الفرص، ومنح الناس فرصة المشاركة في الحكم عبر انتخابات يختارون من خلالها من ينوب عنهم في اتخاذ القرارات المصيرية وغيرها، كما أن النظام السعودي يمنع حتى اللحظة تشكيل الأحزاب والنقابات، وجميع ما يتعلق بمؤسسات المجتمع المدني، ولا يجرؤ أي فرد على المطالبة بمثل هذه الأمور.
لقد انتفض شعبنا في المنطقة الشرقية، لأنه وجد أن مقدرات دولته تتحكّم بها أسرة آل سعود، التي جعلت من البطش والإرهاب والقوة حكماً بينها وبين الشعب، وهي تسيطر على جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها والمناصب العليا فيها، فمن الملك، وولي العهد، ورئاسة مجلس الوزراء، ورئاسة الحرس الوطني، وأمراء المناطق، ورؤساء المؤسسات الحكومية، وصولاً إلى المؤسسات الرياضية، والشركات التجارية الكبرى، وغيرها، كلّ هذه الأجهزة بيد أفراد الأسرة، الذين ليس لديهم أدنى كفاءة لتسلّم مثل هذه الوظائف.
إنَّ هذا الجو السياسي المتخلّف الذي يخدش كرامة الإنسان، ويفقده استقلاليته، ويفرض على الشعب أوضاعاً شاذة، تنعدم فيها الحرية بمختلف مضامينها، وخصوصاً حرية الكلمة والتعبير عن الرأي، فضلاً عن التبعية المطلقة للغرب، كان له الدور الأبرز في تفجر انتفاضة المحرم، التي قدم الشعب فيها عشرات الشهداء ومئات الجرحى، أملاً في إسقاط الحكم الملكي المتجبر والمتسلط، وإقامة البديل الذي ينعم فيه الجميع بالعدل والحرية والمساواة.
إضافةً إلى كل ذلك، قام النظام بفرض حصارٍ فكريٍ وثقافيٍ رهيبٍ على الشعب، ومنع كلّ ما هو على غير نهج النظام ورؤيته، وأقرَّ مصدراً واحداً للفكر هو الفكر الوهابي، ومنع كل كلمة حرة صادقة، أو جريدة أو مجلة، أو أشرطة "الكاسيت" المتداولة في ذلك الوقت، والتي قد تحوي محاضرات تثقيفية وتوعوية، وزجّ بكلّ مَنْ يقتني أياً منها في غياهب السجون.
وفي موازاة ذلك، أحكم النظام قبضته على الصحافة، وسيطر سيطرة تامة على وزارة الإعلام، وسمح فقط للصّحف والمجلات التي تدور في فلك النظام بالعمل، ومنع حرية التعبير، وعملت أجهزته الأمنية على تكميم الأفواه ومعاقبة كلّ من يتجرأ على نقد السلطة أو أيّ مؤسّسة من مؤسسات الدولة.
ومنع النظام إدخال الكتب الإسلامية بما فيها كتب الأدعية والزيارات، وفرض رقابة صارمة، وقام باعتقال وتعذيب كل من وجد معه أياً من هذه الكتب، على الرغم من أن هذه الكتب والمجلات التي يعاقب حاملها في السعودية تباع في مكتبات جميع دول الخليج.
وكان المواطنون يرون بأمّ أعينهم أنَّ النظام الذي يحرمهم من مصادر الفكر ينفق المليارات على الصحف والصحافيين الموالين له في الداخل والخارج، ويشتري بأموال الشعب الكتّاب والمؤرخين الذين يُسبّحون ويُقدّسون بحمد النظام في كلّ العالم.
قد لا يصدق أحد أنَّ المنطقة الشرقية التي تفجّرت فيها الانتفاضة، والتي تعوم على بحر من البترول، هي من أكثر المناطق بؤساً وحرماناً، وقد لا يخطر في بال أحد أنَّ في هذا الجزء من رابع أغنى دولة في العالم، يعيش شعب يستنفد كلّ فرد فيه جسمه وفكره حتى يحصل على لقمة الخبز، ويكدح ليلاً نهاراً ليؤمن بيتاً يسكن فيه، بينما تلاحقه الديون والأقساط إلى اللحظات الأخيرة من عمره!
إنَّ شعبنا الَّذي انتفض في المنطقة الشرقيَّة كان يعي جيداً أنَّ الله سبحانه وتعالى خصّ هذه المنطقة بثروات هائلة، كان من المفترض أن تُستثمر في حساب النهضة الاجتماعية والصناعية، وترقية الشعب المسلم الَّذي يعاني الفقر والعوز والحرمان وانعدام الخدمات الصحية والتعليمية، وكل تمظهرات البنية التحتية في ما يخصّ الشوارع وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات والصرف الصحي... ولكن هذه الثروة الكبيرة لم تحدث أيّ تغيير يذكر في معيشة هؤلاء الناس، فالثروة بددها آل سعود في تسديد فواتير اللهو والترف والمجون الذي تعيشه الأسرة المالكة وحاشيتها.. من بناء القصور، وشراء الفيلات واليخوت الضخمة والطائرات الخاصة، وصرف الملايين على موائد القمار ورحلات اللهو والفساد، إلى حفلات الدعارة والرقص والليالي الحمراء.
إنّ شعبنا كان يدرك ويسمع الكثير من القصص التي تتسرب من ردهات القصور الملكية، ويقرأ الكثير منها على صفحات المجلات والجرائد العالمية. كان شعبنا ولا يزال يرى حكامه وهم يقومون بتبذير ثروات البلد، وهدر المليارات على البذخ الشخصي الخرافي، ومغامرات الأمراء الحمقاء، والتصفية الجسدية للمعارضين أو اعتقالهم، وإبرام صفقات الأسلحة، وشراء سكوت أقوياء العالم، وتمويل عمليات التجسّس على الهواتف، والتواطؤ في شبكات الاتجار بالبشر، وكذلك انخراطهم في توظيف البترو - دولار لإفساد ديموقراطيات العالم هنا وهناك، وشراء الذمم عن طريق الرشاوى والهبات والإكراميات والتمويلات غير المشروعة.
انتفض شعبنا لأنه كان يرى أنَّ بلاده التي يُقدّر الناتج القومي الإجمالي لها في ذلك الوقت بأكثر من 300 مليار دولار غير قادرة على توفير متطلباته في الحياة الكريمة، وخصوصاً أن مصدر ثروة السعودية الأساسي هو النفط الذي يمثل 73% من الإيرادات الحكومية، والذي يستخرج من أراضي المنطقة الشرقية التي تفجَّرت فيها الانتفاضة، والتي يعيش عليها أكثر الناس فقراً، ويمارس بحقهم التمييز والاضطهاد.
وكانت نسبة السكّان الذين يعيشون تحت خط الفقر بلغت 12.5% من إجمالي سكان السعودية، فيما كان النظام السعودي مشغولاً بتأسيس وتمويل منصات إعلامية تدافع عن النظام، وتغطي على إخفاقاته في تقليل نسبة الفقراء، على الرغم من الثروات التي يتلاعب بها أفراد الأسرة المالكة ومن يلوذون بهم.
انتفض شعبنا في المنطقة الشرقية، لأن سياسة التمييز ضده باتت سمة من سمات النظام القائم، إذ قام بتضييق الخناق عليه، فقلص فرص العمل المتاحة له، حتى كادت تتلاشى، ما زاد من نسب البطالة بين أبنائه، حتى إن شركات مثل أرامكو اتجهت إلى التعسف مع موظفيها من الشيعة، بخفض رواتبهم، وحجب فرص ترقيتهم، وحرمانهم من المناصب الإدارية والقيادية العليا، أو فصلهم نهائياً.
وقد ساد شعور لدى المواطنين الشيعة بأنَّ السلطات السعودية تتعامل معهم باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية. وتمثل ذلك في التمييز الطائفي ضدهم، وعدم مساواتهم ببقية المواطنين، وعدم تمثيلهم في أي مناصب متعلقة بالحكم، وهم الَّذين يمثلون 15% من تعداد السكان، لكنهم لم ينالوا في تاريخ "السعودية" أي حقائب وزارية.
كل هؤلاء الذين شعروا بالظلم دخلوا في ركب الانتفاضة واحتجّوا، على أمل أنهم سيكونون قادرين، بما لديهم من حقوق ومطالب مشروعة، على إرغام آل سعود على تنفيذها، لكن رصاص خادم الحرمين ومروحياته ودباباته وجرافاته كانت بالمرصاد.
لقد عانى المواطنون الشيعة في السعودية من سياسات القمع والإقصاء وتقييد حرية التعبير والمعتقد، ومن سياسات التمييز التي تصل إلى حد الاضطهاد على أساس طائفي، إلى درجة أن الإفصاح عن المعتقد الشيعي قد يُؤدي إلى الاحتجاز أو السجن. ويتضمن هذا التمييز الممارسة الدينية والتربية والمنظومة العدلية، فيما يعمد المسؤولون الحكوميون إلى إقصاء الشيعة من بعض الوظائف العامة والرفض العلني لمذهبهم.
انتفض شيعة السعودية لأنهم كانوا يعانون تمييزاً بغيضاً يصل إلى حد شتمهم في الإعلام الرسمي، والاعتقال على أساس ديني، كما تفرض السلطات السعودية قيوداً على بناء دور العبادة الشيعية، وترفض منح التراخيص الخاصَّة بهذا الشأن. ووصل التمييز ضدهم إلى وصفهم في وسائل الإعلام الرسمية، وعلى ألسنة بعض علماء الدين، بـ"الرافضة والمجوس"، وهم يتلقون السباب لأتفه الأسباب، وعلى أساس طائفي.