ما بعد اتفاقيَّة "ابراهام"

مخطئ من عبَّر عن صدمته ومفاجأته بهذا الإعلان الذي يحمل في شكله ومضمونه دلالات كثيرة على المأزق والأزمة التي تواجه أطرافه.

  • مبنى بلدية
    مبنى بلدية "تل أبيب" يضيء بعلم الإمارات.

على الرغم من القناعة المؤكدة بأنَّ الحدث الرئيسي والأحداث المتصلة به تجري كلها في مواقع أخرى، فإن الإعلان الثلاثي، الأميركي الإسرائيلي الإماراتي، لا ينبغي أن يتجاوز حجمه المحدود بكل المقاييس الراهنة والبعيدة المدى، وذلك للعديد من الاعتبارات المرتبطة به.

التوقيت 

يعرف الجميع أنَّ الإمارات، ومعها عدد من الدول العربية، جاهرت في اتصالاتها بالعدو الإسرائيلي، واتخذت لهذه السياسة مظلات ثقافية ورياضية وإعلامية وتجارية، وكانت قبل وفي مدار هذا الإعلان السيئ الذكر على علاقة وثيقة بالدوائر السياسية والأمنية الإسرائيلية، وعملت تحت المظلة الأميركية، وشاركت في تخطيط وإدارة عدد من المعارك في المنطقة والإقليم، والتي كان من أهمها الشراكة في صناعة الحركات التكفيرية الإرهابية ورعايتها وتمويلها وتوجيه مهماتها في سوريا والعراق ولبنان، وكذلك العمل العلني والسري لتوجيه الضربات المباشرة أو غير المباشرة إلى المقاومة اللبنانية وحزب الله، باعتباره رأس الحربة الأقوى في قوى المقاومة، إلى جانب التخريب المتواصل في القارة الأفريقية عبر العدوان المجرم على الشعب اليمني.

ولهذا، مخطئ من عبَّر عن صدمته ومفاجأته بهذا الإعلان الذي يحمل في شكله ومضمونه دلالات كثيرة على المأزق والأزمة التي تواجه أطرافه، وخصوصاً الطرف الأميركي الإسرائيلي، إذ نلاحظ:

1- أنَّ أركان إدارة ترامب كانوا الأكثر انغماساً في إعداد المشهد المسرحي للإعلان والترويج في حمى السباق الانتخابي الأميركي، لإظهار حصول إنجاز تاريخي مفصلي في خارطة الصراع العربي الإسرائيلي.

2- هذه الإدارة التي تتخبَّط في كل مكان، وتلهث خلف أزماتها والتداعيات الشاملة لصراعاتها المفتوحة وجنون رئيسها، لم تجد أضعف من الإمارات للركوب على ظهرها، وإعطاء فرصة أخرى لنتنياهو للخروج من مأزق الائتلاف الحكومي، واضطراره إلى تجميد خطوة الضم التي كان يعتبرها المحطة الأهم في حياته السياسية، وبالغ في تسويقها في أوساط غلاة التطرف الديني واليميني، وامتداده المؤثر انتخابياً في الوسط اليهودي الأميركي .

3- الإعلان الإعلامي عبر شاشة التلفاز والمنصات الإلكترونية، وما تضمنه البيان الرسمي من صياغات، تؤكد جميعها أن اتفاق "ابراهام" جرى إخراجه على عجل، حتى إنَّ النصوص النهائية جرى ترحيل إعلانها لأسابيع، حتى يحاول المنتج والراعي الحصري الأميركي الاستفادة من فترات العرض وصرفها في أكثر من مسار، لخدمة الحلقة الجوهرية لهذا الإعلان.

4- المهم أيضاً أنَّ الإمارات التي انشغلت بذرِّ الرماد في العيون من بوابة الادعاء بالحصول على الموافقة الإسرائيلية بوقف خطوة ضمّ أجزاء من الأراضي الفلسطينية، في محاولة لتحسين مواقعها لدى الرأي العام، فإنها، وهذا هو الأهم، خرجت من أداء دورها من خلف الكواليس، وباستخدام أقنعة متعددة، بما يمثله ذلك من مخاطر أكبر بكثير من الدور العلني على مسرح الأحداث كشريك رسمي للسياسة الأميركية الإسرائيلية .

ما بعد الإعلان

وما بعد الإعلان، أصبح الطريق معبداً لحكومة البحرين في المدى المنظور للانخراط في المشهد والجلوس في الصورة ذاتها التي تجمع حكام الإمارات مع العدو الإسرائيلي بالرعاية الأميركية، ودفع خطوات التطبيع الخليجي على النحو الذي يزيد من عوامل التفكك والانهيار للحالة الرسمية العربية، ويعطي دفعة لأجندة كوشنير - ابن سلمان ذات الأبعاد المتعددة، والتي يقف على رأسها استعداء إيران وحماية أمن "إسرائيل" في إطار مشروع القرن الجديد .

وما بعد الإعلان أيضاً، فإن الفلسطينيين على المستوى الرسمي المتمثل بالسلطة والفصائل الوطنية والإسلامية، عليهم رواية الحقائق بعين واحدة، والتعامل مع المستجدات بمسؤولية مختلفة عن الأسلوب الراهن، وإدراك حجم التحديات والمخاطر التي تتراكم أمام مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

ولهذا، من الحتمي السعي إلى خطوات عملية تزيل أسباب الانقسام التدميري الحاصل، وتغليب المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني على كلّ السياسات والتأثيرات الخارجية، واستنهاض طاقات الشعب وإمكانياته للخروج من هذه المرحلة نحو استكمال مهمات التحرر الوطني والاستقلال الناجز، ودحر مخطَّطات ومشاريع التسوية التي تنتقص من الحقوق العادلة الفلسطينية والعربية. ومن الأهميّة أن تبقى جذوة الصراع ملتهبة بكلّ الأشكال والوسائل، لتبقى القضية الفلسطينيّة الأساس في استقرار المنطقة والإقليم وأمنهما.

كما أنَّ الكلّ الفلسطينيّ مطالب برؤية صحيحة للمشهد الحقيقي للصّراع الجاري مع محور المقاومة، والّذي يمثل في قلبه ومضمونه الرئيسي الصراع الوجودي والجوهري مع المشروع الاستعماري الإسرائيلي الأميركي في فلسطين والمنطقة والإقليم، حيث ما زالت المهمة الأبرز لواشنطن وحلفائها إضعاف هذا المحور وتفكيكه ومحاصرته وتدميره، لفرض واقع الشرق الأوسط الكامل تحت الهيمنة الأميركيّة.

إنَّ التحدّيات الكبرى التي يتصدّى لها أطراف هذا المحور منذ فترة طويلة، أساسها الموقف الراسخ من الحقوق الفلسطينية والعربية، والرافض للأطماع الغربية. وما بحوزة الإعلان الثلاثي الأميركي الإسرائيلي الإماراتي يقع في هذا الاتجاه قولاً وعملاً.