الاتفاق الإماراتي - الإسرائيلي.. خطوة جديدة نحو اللااستقرار في المنطقة

محاولات الحياد أو النّأي بالنفس أو العمل من تحت الطاولة لم تعد ممكنة في ظلّ الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي تتّسم بالوضوح والتَّطرّف في كثير من الأحيان.

  • كونشير وترامب خلال الإعلان عن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي في البيت الأبيض يوم 13 أغسطس 2020 (أ.ف.ب)
    كونشير وترامب خلال الإعلان عن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي في البيت الأبيض يوم 13 أغسطس 2020 (أ.ف.ب)

أعلنت الإمارات و"إسرائيل" التَّوصّل إلى "اتفاق سلام تاريخي"، وقالت دولة الإمارات إن الاتفاق سيكون له وقع إيجابي على المنطقة. في الحقيقة، سيكون من الصّعب فهم كيف يمكن أن يكون لهذا الاتفاق وقع إيجابي على شعوب المنطقة، وخصوصاً أنَّ لهذه الشعوب، كما الحكومات العربيّة، تجارب سلبيّة للغاية مع اتفاقيات "السَّلام" والتّطبيع التي حدثت في السابق مع تل أبيب.

على سبيل المثال، وقّعت مصر اتفاقيات "السَّلام" مع "إسرائيل" بهدف النَّأي بالنفس، والتَّخلّص من الحروب، وتوجيه النفقات الدّفاعية نحو الاستثمارات، وتحقيق رفاهية الشَّعب، وإذ بها بعد أربعين عاماً تجد نفسها أمام العديد من التهديدات التي تهدّد الأمن القومي المصري، سواء تلك المتعلقة بالحركات الإرهابية في سيناء، أو بالحربين في سوريا وليبيا، وأزمة سد النهضة.

بالتّأكيد، كل تلك التهديدات مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالخيارات الاستراتيجية المصرية منذ توقيع معاهدة "السلام" مع "إسرائيل"، ولا مجال للتوسع بهذا الموضوع في هذا المقال.

وفي حالة دول الخليج، يبدو، للأسف، أنَّ المدّة التي ستظهر خلالها التَّأثيرات السَّلبية لاتفاقيات "السَّلام" مع "إسرائيل" في حكومات تلك البلاد وشعوبها، لن تكون بالطَّبع أربعين عاماً، نظراً إلى التَّسارع الزمني الكبير في التغييرات التي تحدث في العالم ككل عموماً، وفي منطقتنا على وجه الخصوص.

نعود إلى حيثيات الاتفاق الإماراتيّ الإسرائيليّ وطبيعة الدّور الأميركي الفعَّال في الإعلان الصَّريح عنه، إذ يبدو من الواضح أنَّ هذا الاتفاق وما سيليه من خطوات سيكون مرتبطاً بشكلٍ مباشر في صراع الولايات المتحدة وحلفائها مع إيران ومحور المقاومة على وجه العموم في الإقليم، حيث إنَّ محاولات الحياد أو النّأي بالنفس أو العمل من تحت الطاولة لم تعد ممكنة، في ظلّ الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي تتّسم بالوضوح والتَّطرّف في كثير من الأحيان. 

وهنا يبرز السؤال عن مدى صوابية مثل تلك الخيارات بالنسبة إلى دولة صغيرة نسبياً كالإمارات العربية المتحدة، إذ سيكون بالفعل من المتعذّر فهم ماهية تلك السّياسات، وكيف يمكن أن تكون تلك الدولة قد وجدت أيّ مصلحة لها فيها؟!

للتّوضيح أكثر، من البديهي أنَّ أي خطوة تطبيع من قبل "إسرائيل" مع أيّ دولة خليجيّة أو عربيّة، ستكون إنجازاً دبلوماسياً جيداً لأي حكومة "إسرائيلية" أو أميركية، ولكن دول الخليج بالتَّحديد لا يمكنها أبداً أن تكون في هذا الموضع نفسه، فهي بالتأكيد ستكون خاسرة على المديين المتوسط والبعيد بالنظر إلى العديد من العوامل: 

1-العامل السَّلبي الأول سيكون بالنسبة إلى هذه الدول هو انعدام أي تأثير لها في مجمل القضية الفلسطينية عموماً، لكونها ستصبح محسوبة بالكامل، وبشكل مطلق وواضح، على محور واشنطن - "تل أبيب"، وبالتالي سيكون من الصعوبة أن تكون ذات صوت مؤثر أو فعَّال في أي تغييرات مستقبلية قد تحدث في شأن القضية الفلسطينية، سوى لناحية دفع الأموال وبعض الاستثمارات والمساعدات، ولن يكون لذلك أيّ تأثير استراتيجيّ مهمّ.

كما أنَّ ادعاء محمد بن زايد أنَّ "إسرائيل" استجابت له في موضوع الضم، وهو ما كذَّبه نتنياهو لاحقاً، يُعتبَر بحق من أسوأ النكت السياسية على الإطلاق، فـ"إسرائيل" لن تتخلَّى عن خطة استراتيجية حيوية، كما تعتقد، كخطة الضم، مقابل علاقة تكتيكية مع دولة مثل الإمارات، لن تكون ذات نتائج استراتيجية مهمة بالنسبة إلى مستقبلها في هذه المنطقة.

ربما لو كان الطَّرف المطبّع هو سوريا أو لبنان، لكان الوضع سيختلف بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية، لكونها ستكون اتفاقيات ذات نتائج استراتيجية مهمة. أمَّا مع أبو ظبي أو المنامة أو الدوحة، فليس من المحتمل أن تكون ذات وزن مهم بالنسبة إلى "إسرائيل" سوى من الناحيتين المعنوية والإعلاميّة على وجه الخصوص.

2-العامل السَّلبي الثاني هو المتعلّق بقضية السّيادة، فنجاح ترامب في فرض هذا الاتفاق العلني على حكومة الإمارات، سيجعل من الصَّعب في المستقبل على حكومات تلك الدول مقاومة أيّ ضغوط أميركية مماثلة مثلاً في موضوع العلاقة مع الصين، أو الحرب في اليمن، أو حتَّى على مستوى الإصلاحات الداخليّة.

وهنا، يمكن طرح المثال السعودي في عملية الإصلاح الاجتماعيّ، إذ إنَّ جانباً مهماً من تلك التغييرات التي حدثت، ولا تزال، في السعودية على المستوى الداخلي مرتبط بالضغوط الأميركية، وفق قاعدة عامة هي تغيير الذهنية الشعبية جذرياً وكسر المسلمات، تمهيداً لبناء العلاقة السُّعودية - الإسرائيلية وتطويرها، وجعلها أكثر مقبولية، ولكن تلك التّغييرات والإصلاحات نفسها المدفوعة أميركياً، ربما لن تكون ذات نتائج إيجابية على مستقبل النظام الحاكم في الرياض، وعلى الشَّعب السعودي بطبيعة الحال.

3-تقع دول الخليج، كما هو معلوم، في منطقة حسّاسة جغرافياً على محاذاة السَّواحل الإيرانية، وهي عموماً لا تراعي مثل هذا الموضوع، إذ ليس من المفهوم نمط السّياسات العدائية المباشرة أو غير المباشرة التي تتبعها دول الخليج إزاء إيران، فخطوات التَّطبيع والتَّنسيق العالي المستوى مع تل أبيب لا يمكن إلَّا أن تكون على حساب العلاقة مع طهران. 

وكان الأجدى بتلك الدُّول، حفاظاً على مصالحها، أن تقيم مثل تلك العلاقات المتقدّمة مع جارتها التَّاريخية، وليس مع دولة تبعد عنها آلاف الكيلومترات، كالولايات المتحدة، وهي كما "إسرائيل" أطراف ليست أصيلة في هذه المنطقة، ومن المستبعد أن تكون قادرة على البقاء فيها إلى أمدٍ طويل. 

4-إنَّ نمط السّياسات الإقليمية لدول الخليج يشابه إلى حدّ بعيد سياسات دول مثل أوكرانيا، أو تلك الواقعة في شرق أوروبا ووسطها، إذ تناصب العداء لدولة عظمى واقعة على حدودها كروسيا الاتحادية، وتقيم القواعد الأميركية على أراضيها لتهديدها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ إيران ومحور المقاومة عموماً لم يكونوا أبداً في وارد التآمر أو الاعتداء على تلك الدول، بل كانت الدعوات إلى الحوار والسلام والأمن الإقليمي المشترك، ولا تزال، هي المحرك الأساسي لسياسات دول وحركات محور المقاومة عموماً.

وهنا يمكن طرح السؤال الآتي: هل من المنطقي والحكمة أن تقوم دولة مثل كندا أو المكسيك باتباع سياسات عدائية تجاه الولايات المتحدة على سبيل المثال؟ إنَّ السلوك الحالي لحكومات كندا والمكسيك تجاه واشنطن، على سبيل المثال لا الحصر، يجب أن يكون هو النّموذج الذي تتبعه دول الخليج تجاه علاقتها مع إيران، وإلا فإنّ عواقب السّياسات المتهورة والمتطرفة واللاعقلانية، من قبيل توقيع اتفاقيات "السّلام التاريخية" مع "إسرائيل "، والتآمر المتواصل على شعوب المنطقة، وصرف مقدَّراتها الاقتصادية، سواء لتمويل الإرهاب أو الحروب العبثية في سوريا واليمن وليبيا وغيرها... لا يمكن إلا أن تكون ذات نتائج كارثية على مستقبل تلك الدول، وسيكون أيضاً لتلك السياسات المزعزعة للاستقرار أثرها السَّلبي في استمرار معاناة شعوب المنطقة ومآسيها.

أنظمة عربية عدة، وبعد سنوات من التطبيع السري مع الاحتلال الإسرائيلي، تسير في ركب التطبيع العلني، برعاية كاملة من الولايات المتحدة الأميركية.