التَّعميم من خارج مبادئه.. من فوّضكم أن تتحدثوا باسمنا؟

لا يمكن القبول بخروج أنصار طائفة أو حزب سياسي إلى الشارع، في سياق حراك اجتماعي معيّن، مدعين تمثيلهم الشعب كله، فهذا الخطاب التعميمي لا يقبله المنطق اللغوي ولا الاجتماعي ولا الرياضياتي.

  • مرفأ بيروت (أ ف ب)
    مرفأ بيروت (أ ف ب)

في العالم العربي، تسود العقليّة التعميميّة بشكل واسع، حتى في الأوساط المثقّفة، من دون مبادئ التعميم أو متطلّباته العلمية التي تعتمد على البحث الميداني، من خلال مجتمع البحث ونظرياته وموضوعه وأدواته وفرضياته وتجاربه التي نستخلص منها القوانين العلمية العامَّة القابلة للتّعميم.

ولا يجوز بتاتاً في الفكر العلميّ الكلام بالتعميم من دون إسناده إلى ضوابط علمية قابلة للبحث والتحقق منها والخلوص إلى النتيجة المعممة نفسها. لذا، لا يقبل العقل العلمي من المثقّف أو رجل السياسة أو المختصّ في أي مجال علمي، أن يقول كلاماً عاماً، وخصوصاً إذا أفضى هذا الكلام إلى تشويش الرؤية، أو تدليس الوعي، أو إلى فتنة مجتمعية تحرق الإنسان والوطن والمنجزات، وتقتل الأمل والطموح في المجتمع.

وقد وجدت في العالم العربي، وخصوصاً في مؤسَّسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والنقابات التابعة لها أو المستقلة عنها، الشيء الكثير من التعميم في خطاباتها المتنوعة للمجتمع العربي، بما أدى في كثير من الأحيان إلى احتقان الشارع العربي، وحوَّله إلى قنبلة موقوتة تبحث عن صاعق لتفجيرها. 

ولولا تدخّل حكماء المجتمع العربي لتهدئة الشّارع، لانهدم كلّ شيء فيه. وما وقع في العالم العربي من "ربيع عربي" أسَّس لثقافة الخراب العربي، والتحارب العربي، والتقاتل العربي، وللمحاور والطائفية والمذهبية والإثنية، بدلاً من دولة الحداثة والمواطنة والديموقراطية والحقوق والواجبات والمساواة والعدالة؛ دولة الإنسان... ليس سوى نتاج الكلام العام المروي عن العقلية العربية العامة الساذجة والشعبوية التي حملت الخراب ضد نفسها وغيرها!

من هذا المنطلق الذي يرفض التعميم عند العقل السليم، لا يمكن القبول بخروج أنصار طائفة أو مذهب أو حزب سياسي أو زعيم قبلي إلى الشارع، في سياق حراك اجتماعي معيّن، مدعين تمثيلهم الشعب كله، فهذا الخطاب التعميمي لا يقبله المنطق اللغوي ولا الاجتماعي ولا الرياضياتي "mathématique"، لأنه يناقض الواقع المجتمعي من عدة وجوه، أقلها مدى تمثيل هؤلاء الأنصار للمجتمع. بمعنى آخر، ما نسبة تمثيلهم لسكان المجتمع، حتى يتحدثوا باسم الشعب أو المجتمع؟ ومن فوّضهم أن يتحدثوا باسمه؟ 

في هذا التعميم مغالطات منطقية تهدم مصداقية تمثيلهم للمجتمع، وتخندق خطابهم في اتجاه معين قد يظهر على سطح معناه، حيث يتبيَّن لماذا انتفض هؤلاء، ومن يحركهم، وما الغاية التي خرجوا من أجلها. مثلاً، عندما يكون سياق الحراك الاجتماعي مطالب اجتماعية عامة صرفة، وتخرج طائفة أو جماعة أو حزب أو منظمة أو أشخاص بشعارات ضد هذه الفئة أو ضد هذا الحزب، أو بمطالب تخالف المطالب الاجتماعية المعلنة في الحراك... ولا تمتّ تلك الشعارات والمطالب إلى المطالب الاجتماعية بصلة، فمن الطبيعي هنا أن لا تمثل تلك الطائفة أو الجماعة أو الحزب أو المنظمة أو الأشخاص الشعب أو المجتمع، بل هي تمثل نفسها فقط، لأنها خرجت عن سياق الحراك الاجتماعي من جهة.

ومن جهة ثانية، لا يوافق كل الشعب على تلك الشعارات الخارجة عن السياق، بحكم تعدد مكوناته وتعدد رؤاه وتوجهاته وثقافته. ومن غير المقبول أن ينجرّ العاقل إلى اختيارات ليست اختياراته، أو إلى رؤى غير رؤاه، أو قرارات غير قراراته... ومن ثم سنجد اختلافات كبيرة وانشقاقات حادة في نسيج المجتمع، لا تسمح بالادعاء بتمثيل فئةٍ ما لكل المجتمع، ولو كانت هذه الفئة ممثلة في البرلمان أو أية مؤسسة منتخبة من المجتمع، فالبرلمان في واقعه لا يمثل إلا من انتخبوه، لأن خارجه توجد فئة لم تشارك في الانتخابات لمعطاها الخاص.

وعليه، إن تمثيله الشعب والمجتمع نسبي من البداية أو الانطلاق. لذا، إنّ أيّ لغة تعميم غير مقبولة هنا، سواء كانت في سياق حراك اجتماعي أو مجتمعي أو سياسي أو في سياق طبيعي، فما يقع في العالم العربي جراء الاستبداد الحاضن للفساد والإفساد، لا يمكن حمايته بالكلام العام من فئة أو طائفة أو حزب أو مذهب أو أشخاص، وبسوق السذاجة العقلية إلى حرق المجتمع في أتون المصالح الخاصة، ليستفيد منها الاستبداد وتوابعه وزوابعه، وينجو من تبعات فساده، وهو يوجه عن قرب أو عن بعد العقل الساذج إلى إفساد بنية المجتمع التحتية، وتخريب مؤسساته، وتشويش عقليته بوقائع قد لا تكون أصلاً موجودة، وإنما هي موهومة! 

وما يحدث في العالم العربي من تحطيم للدول وتخريب عمرانها وإنسانها، ليس سوى نتيجة تضافر الاستبداد والعقلية الساذجة والخطاب التعميمي والمرويات الشفاهية الشعبوية الخانقة للعقل والتفكير، وهو ما يجري مثلاً في لبنان حالياً، الذي أعزّيه في شهدائه، وأدعو لجرحاه بالشفاء، ولمفقوديه بالعودة سالمين، ولمشرّديه بالأمن والأمان، ولشعبه بالسّلامة من الفتن. 

وفي ظلّ الكارثة التي تسبَّب بها الفساد والإفساد بعوامل داخلية وخارجية، من المفترض تفكير كل مكوناته بجدية في كيفية الخروج منها، واستثمار انفتاح العالم عليه لصالحه، واستغلال الفرصة الحالية في شد لحمة المجتمع في هذه المصيبة الجلل، عبر التضامن والتكافل والتكامل، ولكن ذهب البعض مع الأسف - مع احترامي للحراك الاجتماعي غير السياسي - إلى زيادة متاعب لبنان، بخلق احتقان وتوتر داخلي عمد إلى تخريب ما بقي سالماً من الانفجار العظيم الذي هشَّم وجه العاصمة ونكَّل بأبنائها وناسها - حفظهم الله - وكأن بيروت لم ينقصها سوى هذا الخروج غير المعقلن وغير المنضبط المخرب للمؤسسات.

وبدلاً من لملمة الجراح والمآسي والنهوض من جديد أشد قوة وعزيمة على محاربة الفساد والمفسدين وبناء الوطن، زيدت جراح ومآسٍ على مآسيها، بما لا يوافق عليه عقل سليم أو حكيم عليم بمآلات الأمور. 

هذا الخروج يشكّل بتخريبه المؤسَّسات منفذاً لهروب الفساد والمفسدين مما أوقعوا فيه لبنان من خراب ومشاكل ناجين سالمين، ويبقى الشهيد شهيداً، والجريح جريحاً، والمفقود مفقوداً، والمشرد مشرداً، والتائه تائهاً، من دون إنصاف أو عدالة، لأن فئة تحركها أيدي الفساد أو العاطفة أو المصلحة الخاصة أو السذاجة، ولا تنظر إلا إلى قدميها من دون الأفق الممتد والواقع الذي يدفن الخبايا والقضايا المتستر عليها، والتي يجب تعريتها والتنقيب عنها والبحث فيها، والتساؤل حولها، ومحاسبة أربابها.

لكن لا يمكن للعقليّة العربيّة المنتجة، في ظلّ أنظمتها المستبدة والظالمة، أن تحلّل الأمور والأوضاع والوقائع والقضايا تحليلاً علمياً، لأنها مشغولة بصغائرها وبمصالحها الضيّقة، فضلاً عن كونها عقلية انفعالية عاطفية لا علمية إلا ما ندر منها، تتحرك من خلال الكلام العام ولا تحلّله، ثم تبني موقفاً منه، وتتخذ قرارها بناء عليه، أليس في إعلامنا ما يقودنا إلى الهلاك بكلمة تعميمية أو خبر كاذب، ويحرقنا في محرقة تضارب المصالح وصراعات المتحكمين بنا من سياسيين وزعماء قبائل وطوائف ومذاهب وجماعات دينية وغيرها؟! ألا تغيب دولة المواطنة في العالم العربي بسبب وجود زعماء الأحزاب السياسية، وزعماء القبائل والعشائر والمذاهب والطوائف، وأرباب الإيديولوجيا والدين، وعرّابي الخطب الرنانة؟

إن العقل المفكّر يفيد بأن يراجع كل مكون يتحدَّث بالتعميم باسم المجتمع خطابه، ليستثني منه من لا يوافقه التعميم، بل يطلب منه التخصيص والاستثناء.