لبنان بعد إعادة افتتاح قصر الصنوبر
في وقتنا الحالي، ثمّة تغيّرات جوهريّة لا بد من الوقوف عند نتائجها مطولاً، والمقصود هنا تأثير الانفكاك في المسارات السياسية لدى الغرب في طبيعة التدخل في الشؤون اللبنانيّة.
منذ استشهاد رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005، وما أعقب ذلك من حراك شعبيّ عارم قادت أحداثه السفارة الأميركيّة، شهد لبنان مرحلة جديدة مختلفة، تمثّلت في انتقال قيادة الوصاية الغربيّة من قصر الصنوبر إلى عوكر، وبالتالي انتقل الوطن من مرحلة "الوصاية الناعمة" إلى مرحلة "الفوضى الخلاقة".
في ذلك الوقت، لم يكن من المهم تحديد الجهة الَّتي تقود الوصاية الغربيّة، فالهدف واحد، وإن تبدّلت الأساليب، ألا وهو ديمومة استثمار موقع لبنان الجيوسياسي للنفاذ منه إلى المنطقة. أما في وقتنا الحالي، فثمّة تغيّرات جوهريّة لا بد من الوقوف عند نتائجها مطولاً، والمقصود هنا تأثير الانفكاك في المسارات السياسية لدى الغرب في طبيعة التدخل في الشؤون اللبنانيّة.
قد يكون من الصّعب تقبّل فكرة أنّ الحضور المفاجئ للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قصر الصنوبر، وإدارته الملف اللبناني بشكل مباشر ومنسّق، هو عبارة عن مساعٍ فرنسيّة جاءت بالتوازي مع مساعٍ أخرى تهدف إلى إقناع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن مكمن الحلّ في لبنان يكون بإشراك كل مكوناته في العمليّة السياسيّة، ولو كان ذلك على حساب إهمال بعض الملفات العالقة، كسلاح المقاومة مثلاً.
إن التوقيت الذي اختاره ماكرون على أبواب مرحلة أميركيّة جديدة، كان من المقرر أن تبدأ في 7 آب/أغسطس الجاري (تاريخ النطق بالحكم)، والطرح الذي قدّمه بصيغته المتناقضة جوهراً ومضموناً مع طرح عوكر، يقوداننا إلى التشكيك في كل الإيحاءات التي تفيد بأنَّ هناك تنسيقاً عالياً ومفيداً يحصل بين الطرفين، وهو ما ستكشف عنه - في كل الأحوال - الأيام المقبلة.
تمثّلت أهميّة زيارة ماكرون بماهية الطرح الذي حمله في جعبته، أو بعبارة أخرى، الأسلوب الذي سيلج من خلاله إلى الأزمة اللبنانيّة، والذي سيشكّل ركيزة له تضمن التدخل الفاعل والدائم في السياسة الداخليّة للبنان، بما يحقق لفرنسا، ومن خلفها الاتحاد الأوروبي، الحضور القوي والمستمرّ في الساحة الداخليّة والإقليميّة.
من المرجّح أن تكون باريس قد تبنّت طرحاً موجوداً أصلاً، وهو واحد من 3 رؤى حاضرة في الساحة الداخليّة، الأولى رؤية 14 آذار، ومن خلفها السفارة الأميركيّة، والثانية رؤية المقاومة، ومن خلفها الثنائي الشيعيّ وبعض التيارات والأحزاب الوطنيّة. أما الثالثة، فهي رؤية التغيير والإصلاح، ومن خلفها الرئيس ميشال عون وحزب التغيير والإصلاح.
قد يكون من البديهيّ أن تتبنّى باريس الرؤية الثالثة، ليس لسهولة الارتكاز فيها على العلاقة الطيّبة التي تجمع الرئيس ميشال عون وتيّاره مع فرنسا، بل لوسطيتها التي تجعل منها حلاً يمكن أن يتقبّله الجميع، ولكن بالتأكيد، ليس قبل مخاضٍ عسير قد يؤدي إلى انفراج وطنيّ، وقد لا يؤدي.
من هنا، كانت المحطّة الأبرز في زيارة ماكرون اجتماعه بأقطاب المعارضة المسيحيّة في قصر الصنوبر، ولغة المصارحة الشديدة في الدعوة إلى الإقلاع عن الشعارات التي لم تعطِ نتائج منذ 15 عاماً.
وفي هذه النقطة، يجب الالتفات إلى المعنى المضمر في خضمّ تلك المصارحة، وهو الدعوة الواضحة إلى توحيد الصف المسيحيّ ضمن رؤية شاملة للحل، وتوحيد الشارع بشكل سريع، للتماهي مع استحقاقات المرحلة القادمة، بما تحمل من متغيرات ثابتة أساسيّة، حيث الحضور الإقليمي لتركيا والاتحاد الأوروبي، مع غياب السعودية والولايات المتحدة الأميركيّة.
حمل الطرح الفرنسي دعوة صريحة لجميع الأطراف بالالتفاف حول قضيّة وطنيّة هي إنقاذ الوضع الاقتصادي من خلال التكاتف السياسي، على قاعدة بلورة رؤية واحدة للحل، مرتكزة، بحسب كلام ماكرون، على "تجديد العقد السياسيّ"، وهو أخطر ما في الزيارة، لأنه يمكن أن يعني إلى حدّ بعيد تبنّي رؤية حزب التغيير والإصلاح، المتمثّلة بتعزيز صلاحيات رئيس الجمهوريّة، وإقامة الدولة المدنيّة، وترجيح قانون انتخاب الدائرة الواحدة.
جميعنا يعرف مدى حجم اتفاق المكونات اللبنانيّة على بعض نقاط هذا الطرح، ومدى الاختلاف على البعض الآخر، ولكن، وعلى فرض صحّة فرضيّة أنّ ماكرون أتى بهذا الطرح، ونجح في تسويقه بالتنسيق مع أطراف لبنانيّة - مسيحيّة على وجه التحديد - فهذا يعني أننا قد نكون على أبواب مرحلة جديدة نشهد فيها غياب "الطائف" - كعقد سياسيّ - ومعه غياب كل ضمانات الشراكة الوطنيّة والسلم الأهليّ.
إنَّ اللعب على أوراق الإصلاح والتغيير عبر خلط الأوراق وإعادة الاصطفافات الداخليّة، سيكون له مآلات كارثيّة، فلبنان بلد الشراكة الذي قدّم نموذجاً فريداً للديموقراطية التوافقية (الناجحة لولا تدخل الآخرين)، لن يستطيع تحمّل إعادة تجربة 15 عاماً من الحرب الأهليّة و150 ألف شهيد، كي يثبت من جديد أن العقد الاجتماعي والسياسي للبنان الرسالة قائم على مبدأ الشراكة الوطنيّة وعدم الاستئثار، كما أنه قائم أيضاً على القرار المستقلّ بعيداً من تدخل الآخرين.