كيف تفوَّق حزب الله على "إسرائيل" في الحرب النفسيَّة؟
وجه إلى "إسرائيل" رسالة مشفّرة تستطيع فكّ شيفرتها: أنتم كنتم قادرين على القتل، ولم تقتلوا، ونحن كنا قادرين على دخول فلسطين المحتلة، ولم ندخل.
في خضمّ الصراع المفتوح بين حزب الله و"إسرائيل"، تتداخل جميع استراتيجيات الحروب؛ العسكرية والاقتصادية والإعلامية والنفسية. في الحرب العسكرية، هناك ردع متبادل وتوازن عسكري بين الطرفين، لكن في الحروب الإعلامية والمعنوية والنفسية، هناك تفوق واضح لحزب الله باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، فكيف استطاع حزب الله أن يردع "إسرائيل" عسكرياً، ويتفوق عليها في الحرب النفسية؟
عمل حزب الله على أن يرد بشكل دائم على أي اعتداء إسرائيلي عليه، سواء داخل لبنان أو سوريا، فهو يدرك أن ردع "إسرائيل" يكون بالرد عليها بالمثل، وأن أي عملية إسرائيلية ضده يجب أن تقابل برد، لأن عدم الرد سيؤدي إلى المزيد من العمليات الإسرائيلية ورفع معنويات الجيش الإسرائيلي، باعتباره المبادر والمتحكم بقواعد الاشتباك مع الحزب.
ومن خلال ردوده على كل عملية إسرائيلية ضده، استطاع الحزب بشكل كبير ردع "إسرائيل" عن استهدافه. وبذلك حقق عملية الردع، وأصبح هناك توازن عسكري مع "إسرائيل". وما يميّز حزب الله في هذه النقطة أنه لا يرد على الاعتداءات العسكرية فقط، بل يرد حتى على رسائل "إسرائيل" المشفرة أو الأمور التي يعرف أنها تقف وراءها من دون أن تتبناها رسمياً.
على سبيل المثال، عندما استولت "إسرائيل" على طائرة مسيَّرة تابعة لفرقة إنشاد ديني داعمة للحزب على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، أعلنت بعدها بيومين أن طائرة مسيَّرة لها سقطت وتحطمت داخل الأراضي اللبنانية. وبغضّ النظر عن كيفية سقوط الطائرة الإسرائيلية، فإن الرسالة وصلت: طائرة مقابل طائرة.
وهناك حدث آخر يجب ذكره، عندما قصفت "إسرائيل" سيارة تابعة لحزب الله في جديدة يابوس على الحدود اللبنانية السورية، ثم تحدثت عبر إعلامها عن أنها تجنَّبت قتل عناصر حزب الله، ولكنها أرادت فقط أن تقول للحزب إنها تعرف ماذا يفعل، وماذا ينقل في تلك السيارة.
وبعد عدة أيام، حدثت ثغرات في السياج الفاصل بين لبنان وفلسطين المحتلة، في عملية لا يقدر على فعلها إلا الحزب. وبذلك، وجه إلى "إسرائيل" رسالة مشفّرة تستطيع فكّ شيفرتها: أنتم كنتم قادرين على القتل، ولم تقتلوا، ونحن كنا قادرين على دخول فلسطين المحتلة، ولم ندخل. وهذا جزء من الحرب النفسية أيضاً، فالحزب لا يريد أن يكون صراعه مع "إسرائيل" عسكرياً فقط، وهو الجانب المفضل لدى الأخيرة في صراعها التاريخي مع خصومها، بل أدخل في الصراع معها الجوانب الإعلامية والمعنوية والنفسية، وهي جوانب تعاني "إسرائيل" من مكامن ضعف وخلل فيها.
إنَّ حزب الله يعرف سمات الشعب الإسرائيلي، ويعرف التناقضات داخله، ويستطيع اللعب عليها، وقد برع الأمين العام للحزب في ذلك في خطاباته التي تظهر معرفة هائلة بنقاط ضعف المجتمع الإسرائيلي، وأهم تناقض في المجتمع الإسرائيلي أنه مقتنع بقوته وعظمته وجبروته، وفي الوقت ذاته مقتنع بأنّه تم ظلمه وقتله وسبيه على يد نبوخذ نصر ونارام سين حكام بابل.
الشخصية الإسرائيلية متناقضة بشكل كبير، فهي مقتنعة بجبروتها وقوتها الخارقة، وفي الوقت نفسه لديها شعور دائم بالخوف والدونية والمظلومية، نتيجة الأحداث التي تم غرسها في أدمغة هذا الشعب منذ الصغر، وهي القتل والسبي على يد نبوخذ نصر ونارام سين، وما يسمى بالمحرقة على يد النازية وما إلى ذلك.
هذا الضّعف في الشخصية الإسرائيلية لا يظهر إلا إذا كانت "إسرائيل" في حالة دفاع وردّ فعل، فهي عندما تكون في موقع المهاجم تقتنع بعظمتها وجبروتها، ولكنها عندما تكون في موضع رد فعل، تظهر نقاط ضعفها التاريخية وشعورها بالذل والضعف والدونيّة، وهذا سبب رعبها من نقل المعركة إلى داخل أراضيها، وهذا يفسر أيضاً هلعها عندما تكون في حالة انتظار لردّ حزب الله عليها، نتيجة خرقها قواعد الاشتباك.
لذلك، إنّ الحزب يصمّم دوماً على أن لا تكون "إسرائيل" هي المبادرة، وأن تكون في موضع رد الفعل، حتى تظهر نقاط ضعفها، وهو لا يرد على اعتداءاتها بسرعة فورية، ويفضّل أن يجعلها تتنظر حتى يرهقها ذهنياً ويوترها عصبياً، مستغلاً نقاط الضعف، ليس في "إسرائيل" كـ"دولة" فحسب، بل في العقل الجمعي للمجتمع الإسرائيلي أيضاً، فالحزب يطبّق مقولة أن انتظار الحرب أصعب من الحرب نفسها، حتى يذلّ "إسرائيل" نفسياً.
وفي الصراع العسكريّ بين حزب الله و"إسرائيل"، هناك ردع متبادل وتوازن قوى بين الطرفين، لكن في الحرب النفسية والإعلامية بينهما، هناك تفوق واضح لحزب الله، لأنه أدرك نقاط ضعف المجتمع الإسرائيلي، واستغلَّها على مستوى البيانات الرسمية وخطابات الأمين العام والأفعال على أرض الواقع، وحتى في المقاطع المصورة التي ينشرها الإعلام الحربي التابع له، فقد استطاع بث القلق والتوتر وعدم الثقة بالنفس في صفوف الإسرائيليين.
إن استراتيجية حزب الله النفسية في مواجهة "إسرائيل" تهدف إلى جعلها مهزومة من الداخل، وإلى كيّ وعي الإسرائيليين، والتأثير في عقلهم الجمعي، وبثّ الرسائل النفسية باحترافية تخترق عقول الإسرائيليين، فردع حزب الله العسكري لـ"إسرائيل" تنطبق عليه مقولة "الدولة لا تشنّ حرباً إلا إذا كان ثمن الحرب رخيصاً"، و"إسرائيل" تدرك أن ثمن الحرب على لبنان ليس رخيصاً.
أما الحرب النفسية التي يشنّها حزب الله على "إسرائيل"، فينطبق عليها مقولة "الحرب لا تشتعل في فوهات المدافع فقط، بل في عقول الناس وأفكارهم أيضاً"، فحزب الله يحارب "إسرائيل" نفسياً عبر بثّ الشكّ في تحقيق النصر داخل أدمغة الإسرائيليين وعقولهم، والحرب النفسية شيء مهم في جميع الحروب، ولكن في الحالة الإسرائيلية بالتحديد، فإن أهميتها استثنائية، لأن نقاط ضعف المجتمع الإسرائيلي النفسيّة ليست نقاط ضعف فرعية، بل هي نقاط ضعف جوهرية.
ولو تمّ استغلالها بشكل علمي، فستنهار "إسرائيل" نفسياً من الداخل، فالمجتمع الإسرائيلي يجمع كل التناقضات النفسية في داخله، فهو يشعر بالاستعلاء نتيجة قوته العسكرية، ويشعر بالذل والضعف نتيجة الأحداث التاريخية التي تعرض لها، مثل السبي البابلي والمحرقة، ويشعر بالقوة، وبأنه لا يحتاج إلى أحد، إذ إنه شعب الله المختار. وفي الوقت ذاته، يشعر بالقلق والشك من المستقبل، ويهرول نحو القوى العظمى، مثل أميركا وروسيا، حتى يطلب الحماية منها.
إنّ المجتمع الإسرائيلي مجتمع ضعيف نفسياً من الداخل، وتسهل السيطرة على عقول مواطنيه، وهو ما عمل حزب الله على تحقيقه، فالحزب لم يكتفِ بمقاومة "إسرائيل" عسكرياً، بل أعطى اهتماماً خاصاً بالحرب النفسية ضدها، ونجاح الحزب في هذا المضمار يتجلّى في حالة الارتباك التي ظهر بها الإعلام الإسرائيلي بعد مقابلة الشيخ نعيم قاسم، وبعد بيان المقاومة بخصوص مزارع شبعا.
وللدلالة على نجاح حزب الله في التأثير في العقل الجمعي للمواطنين الإسرائيليين، نذكر تصريح ليبرمان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق: "مع الأسف، أثبت نصر الله أنَّ الكلمة عنده كلمة، والعين بالعين، والسن بالسن. قتلنا عنصراً لهم في دمشق، والآن الشمال كلّه مشلول". هذا التصريح مهم، لأننا نستدلّ منه على أن مجرد تهديد حزب الله بالرد جعل شمال فلسطين المحتلة في حالة شلل، وهو قمة النجاح للحزب في الحرب النفسية.