ترامب.. من عواصف الكذب إلى عواصف العنصرية
من المؤكد أن أميركا الآن، وفي أبجديات سياسة كل دول العالم، هي أكبر دولة منتجة للإرهاب ومناهضة بشكل فجّ للديموقراطية وحقوق الإنسان.
دونالد ترامب "النرجسي والمتعجرف والمتنمّر والكاذب". هكذا تصفه قريبته ماري في كتابها، لكن بالتأكيد "الدائم لا يُبنى على الخطأ"، بحسب المفكر الفرنسي أندري مالرو. وبالتأكيد أيضاً، هذه المقولة يمكن إسقاطها على سياسة ترامب، فقد حاول منذ البداية تصحيح سياسة أميركا وفقاً لمقولته العنصرية "أميركا أولاً"، ولم يكن يدري أنه، وفقاً لتلك المقولة، يبني جسوراً من الكراهية ضده وضد أميركا من داخل أميركا نفسها.
لم تكن عنصريته مستمدة من تحرك الشارع بداية، بل بدأها ضد الرئيس السابق باراك أوباما، إيماناً منه، وبكراهية مفرطة، بأن أوباما ببشرته السوداء جاء من "عصر العبيد"، فكيف يحكم أميركا رجل من السود؟!
ولذلك، بدأ بإسقاط كلّ إنجازاته، بداية بالاتفاق النووي مع إيران. وقد فعل ذلك ظناً منه أنه يرتب البيت الأميركي وفق نظرية التفوق العرقي، لا التفوّق السياسي والعسكري الأميركي، واهتمّ بعنف بما يؤمن به، على عنصريّته، وما آمن به هو في الأساس من صلب الخطأ، فهو لم يحقق شيئاً للداخل الأميركي، ولم يعد لأميركا هبّتها التي بدأت بالتراجع اقتصادياً أمام الصين، وعسكرياً أمام روسيا، أو هي على حافات الانهيار.
وعندما دعا وزير الخزانة البريطاني السابق، جورج أوزبورن، إلى التوجّه نحو الصين، كانت لديه قناعة بأنّ الصّين الصّاعدة ستصبح يوماً ما "القوة الاقتصادية الأولى في العالم"، ولم يكن كلامه مجرد كلام كاهن أو منظّر من خلف الأبواب المغلقة، بل كان بناء على متغيّر سريع نحو مفهوم الصعود والهبوط للقوى السياسية وللحضارات أيضاً.
وقد أكّد هذا الأمر سابقاً المفكر نعوم تشومسكي والمؤرخ بول كينيدي. بالطبع، إن السياسة المشبعة بالمبادئ والقيم الإنسانية هي القوى السياسية الفاعلة في مبدأ الصعود، والفاعلة أيضاً في غيابها في السقوط. إن ترامب، منذ مجيئه إلى الحكم، ينظّر للفراغ السياسي، ويدمّر ما تم بناؤه خلال عقود، بناء على نظرة استخفافية بالكل، ثم بالقرار السياسي، متحدياً كل القوانين الدولية، وكأنَّ الاقتصاد يُبنى على مفاهيم عصبية ورؤى عنصرية!
لقد هاجم الكل وكأنه آلهة فرعونية خرجت من قبرها للتوّ، لتعيد مقولة فرعون مصر: "أنا ربكم الأعلى"، رغم أنه يخشى، غيرةً، صور رؤساء أميركا السابقين، فينزع صورهم من قاعة مهمة في البيت الأبيض، ليضعها في قاعة أخرى لا يراها أي زائر.
لقد حاول تطويع الدول المناهضة لسياسة الإرهاب الأميركي بالعقوبات والحصار الاقتصادي، وحتى القتل الممنهج (قاسم سليماني)، ظناً منه أنه يسعى بذلك إلى بناء الإمبراطورية الأميركية التي لا تقهر، وهو في الأصل يحوّلها من دون أن يشعر إلى دولة منبوذة عالمياً.
من المؤكد أن أميركا الآن، وفي أبجديات سياسة كل دول العالم، هي أكبر دولة منتجة للإرهاب ومناهضة بشكل فجّ للديموقراطية وحقوق الإنسان، فهل قتل الشرطة لجورج فلويد، وعلى مرأى من العالم، ثم مواجهة المحتجين ضد العنصرية سلمياً بالقوة العسكرية وتفريقهم بعنف، أمر ديمقراطي؟
لقد وصف الصحافي الأميركي توماس فريدمان سلوك ترامب "بأنه أمر مرعب.. ففي مدينة بورتلاند في ولاية أوريغون، رأينا القوات الفيدرالية العسكرية ترتدي ملابس القتال، ولكن لا توجد لديهم علامات مميزة، وكانوا يعتقلون الناس، ويضعونهم في عربات لا تحمل علامات. كيف يمكن أن يحدث هذا في أميركا؟"، وهو ما لم يحدث في إيران التي يتهمها ترامب وفريقه في البيت الأبيض بتجاوز حقوق الإنسان، بل يحدث في "إسرائيل" وفرنسا وأميركا.
إنَّها سياسة الانقسام التي يتبعها ترامب، "وهي الاستراتيجية الوحيدة التي لن يقلّدها أبداً"، كما يقول فريدمان. تقول صحيفة "واشنطن بوست" إنّ الرئيس الأميركي "يواصل هجوماً متهوراً وغير متماسك وأحادي الجانب ضد بكين"، فيما يبدو أنه "مصمّم على تعزيز حملة إعادة انتخابه، وليس إدارة التحدي المعقّد الذي يشكّله نظام شي جين بينغ".
وهنا، يبدو أنه يمارس، وببساطة، سياسة الغباء، وكأنه يلعب بالنار مع الصين، والنار تحرقه. وقد طرح في هذا الموقف أكثر من سؤال: هل يلعب على الخطأ ظناً منه أن ذلك يؤهّله إلى فترة رئاسية ثانية أو أنه يريد وضع أميركا بين فكّي الصين وروسيا لحسابات مقاولاتية لاحقاً؟
الرأي الراجح أنه يلعب بالخطأ، لكونه وصل إلى الرئاسة خطأ في التقدير، وإن كان منتخباً. بالطبع، إن الأخطاء لا تبررها التغريدات، ولا تأخذ صوابها من صوت يدّعي الإصلاح الاقتصادي، ويفاخر بـ"أميركا أولاً"، بل تدفع إلى الوراء خطوات قاتلة.
يقول وزير الدفاع الأسبق، ليون بانيتا، في مقابلة مع قناة "كان" الإسرائيلية، إن "سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم تدفعنا قدماً من أجل تغيير النظام في إيران. وهكذا فشلنا في كل الجبهات"، بل أدت سياسته إلى انتشار الخوف في المجتمع الأميركي، حتى أصبح الجميع فيه يحسّون بأنه مجتمع مفكك وقابل للاختراق في أي لحظة.
لقد تحوَّل إلى مجتمع جامع للسلاح الفردي بدلاً من الأمن والسلام. ويشير تقرير للـ"أف بي آي" إلى ارتفاع مخيف في زيادة معدلات مبيعات الأسلحة المرخّصة منذ شهر حزيران/يونيو المنصرم بنسبة 177% عن مثيلاتها للعام 2019، والبندقيات الأوتوماتيكية بنسبة 144% للفترة عينها، ثم إن تحدّيه للصين لم يجدِ نفعاً، رغم تحذير الجيش الأميركي والنخب من اللعب بالنار. وجاء رد الصين قاسياً، وهو إغلاق القنصلية الأميركية في أهم منطقة صناعية في الصين.
لقد ظلَّ يهاجم وكأنه راعي بقر، وليس رئيس دولة، وهو ما دعا ضباطاً في الاستخبارات العسكرية الأميركية إلى التعبير "عن قلقهم من اندلاع مواجهة عسكرية مع الصين، ليس مضموناً فيها فوز واشنطن، نتيجة عدم جهوزية مشاة البحرية أو سلاح البحرية الأميركية".
إنَّه يواصل هجوماً متهوراً وغير متماسك وأحادي الجانب ضد بكين، تقول صحيفة "واشنطن بوست". هذه السياسة الرّعوية أدَّت إلى اتفاق استراتيجيّ بين إيران والصين لمدة 25 سنة، ومثله مع روسيا، فضلاً عن الاتفاق الاستراتيجي بين سوريا وإيران، وهي تصبّ كلّها في مواجهة أميركا.
ومن المؤكد أن أوروبا وغيرها لن تقف معه في مواجهة مع الصين، لأنها ستكون حرباً لا يعلم مداها إلا الله، أو كما قال بوتين: "حرب ستفني العالم". ربما يمكن توصيف سياسة الصين المبنية على مبدأ تصوّر الواقع من داخله، بمقولة أندري مالرو: "صغير القطط يلعب، وكبيرها يتأمل".