الاعتداء على "ماهان" الإيرانيّة.. العمليّة في الزمان والمكان

أكَّدت الأيام القليلة الماضية قدرة القيادة الإيرانية على الردّ على كل الاعتداءات التي حملت رسائل مضمرة، إن كان على مستوى العمليات الأمنيّة أو الهجمات السيبرانيّة، ودائماً وفق قاعدة الردّ بالمثل.

  • امرأة إيرانيّة تسير أمام لوحة جداريّة مناهضة للولايات المتحدة على السفارة الأميركية السابقة في طهران (رويرتز)
    امرأة إيرانيّة تسير أمام لوحة جداريّة مناهضة للولايات المتحدة على السفارة الأميركية السابقة في طهران (رويترز)

قد يكون من المبكر الكلام عن أسباب الاعتداء الفريد على طائرة الركاب الإيرانية وحيثياته، قبل تتبّع ورصد بعض التصريحات الإعلاميّة التي من المفترض أن تحمل إشارات ورسائل حول العمليّة، وكذلك الردود الإيرانية في طبيعتها ومستوى تفاعلها مع الحدث، ولكن لا بأس في تقديم قراءة عسكريّة تقارب الموضوع في سياق التطورات الأمنيّة المتتابعة، في محاولة لاستبيان الأهداف والغايات المرجوّة من تلك العمليّة.

يجب التأكيد في البداية - وحسماً للجدل - أنَّ العمليّة أتت في الدرجة الأولى كرسالة واضحة و"رسميّة" إلى الطرف الإيراني، وتحمل دلالات عميقة، ولو كانت مجرد قرصنة بسيطة، ليتمّ تدمير الطائرة بطريقة سريّة من دون إظهار الفاعل، وهو ما يعكس عادةً الطبيعة المحدودة للرسالة السياسيّة.

الطبيعة الحادّة للرسالة

عادةً ما تقوم الولايات المتحدة الأميركية بانتهاج سبيل النزاع المسلّح بطبيعته الباردة أو الساخنة أو حتى الملتهبة، وذلك بعد أن تؤمّن له ما يكفي من الغطاء الدولي الذي تسخّره عادة لتأكيد حضور القيم الأميركية وفاعليّتها في البعد الثقافي للحرب، والذي ينتهج عادة "الحرب النظيفة" كمبدأ صراعيّ.

أمّا أن يقوم ترامب بالتغريد في حسابه مطلع هذا العام، مهدداً باستهداف 52 موقعاً ثقافياً إيرانياً إذا تم الرد على عملية اغتيال الشهيد سليماني، وأن تقوم قوّاته بعد أشهر بالتعرّض لسلامة ركاب الطائرة الإيرانيّة، فهذا يؤكّد انتهاجه سياسة الحرب غير النظيفة، وأنّ هذه الحرب، إن حدثت، فستكون مفتوحة الوسائل وخارج القيود المتعارفة لدى نظام الأمن العالميّ.

رسالة في الزمان والمكان

بالرجوع مع عقارب الساعة قليلاً إلى الوراء، فقد أدى تخطي الولايات المتحدة للخطوط الحمر - والتي فرضتها إيران بسياسة الأمر الواقع - إلى تصاعد خطير في حدّة التوتر في المنطقة، بدأ يأخذ الشكل الملتهب والمواجهة المباشرة بين الطرفين، فمع تخطّي الولايات المتحدة حدود خط الاشتباك في اليمن وفلسطين ولبنان، حين قامت قوّاتها الجويّة باختراق المجال الجوي فوق المياه الإقليميّة لإيران، جاء الردّ الإيراني بإسقاط الطائرة المسيّرة الاستراتيجيّة الأميركية. ومع إقدام الولايات المتحدة على اغتيال الفريق الشهيد قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد، جاءت ضربة "عين الأسد"، التي اعتبرها الجانب الإيراني باكورة المواجهة المفتوحة حتى إنهاء الوجود الأميركي في المنطقة.

وبعد الأحداث الخطيرة التي شهدها العراق مؤخراً، والتي تحولت من مطالب شعبية إلى أخرى سياسية تستهدف الحضور الأمني والرسمي للحشد الشعبي، كثر الحديث عن عزم الجيش الأميركي، بالتنسيق مع الحكومة العراقية، على تخفيف وجوده العسكري، وتسليم قواعد التحالف إلى الجيش العراقي.

بالتوازي، أتى التصعيد الأمني عبر سلسلة عمليات عسكريّة متعاقبة استهدفت دوريات ومواقع عسكريّة تخصّ التحالف داخل العراق. جاء ذلك مترافقاً مع تهديدات كلاميّة ورسائل واضحة موجّهة إلى الجانب الأميركي، بأن إيران تقصد ما تفعل، وكان آخرها التوصية العلنيّة التي حمّلها السيد القائد الخامنئي قبل عدّة أيام لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، والتي حثّت الحكومة العراقية على العمل الدؤوب لإخراج المحتلّ سريعاً من أراضي العراق.

في المحصّلة، جاءت هذه العمليّة في الظرف الذي شاء فيه الأميركي إعادة تموضعه وترك العراق (بحجّة تصاعد المواجهة مع الصين)، ورغبة الإيراني الجامحة في إخراجه بالقوّة من المنطقة (والأخذ بثأر الجنرال سليماني). وعليه، أصبح لزاماً على الطرف الأميركي كبح الجماح الإيراني، بغية تغطية انسحابه من العراق لغايتين مهمتين: الأولى المحافظة على هيبة القوات الأميركية، والثانية رسم حدود خط الاشتباك للمرحلة القادمة، والذي يمرّ بنقطتين واضحتين هما "التنف" و"حضر القنيطرة".

سبق العمليّة محاولة كبح باءت بالفشل

لغة القوّة أكثر بلاغة من لغة الدبلوماسيّة. جرى استهداف مفاعل "نتانز" الإيراني بعمليّة تخريبيّة أمنيّة ربما أريد منها الإيحاء المدى الاستراتيجي الذي تتمتع به أميركا في المنطقة، إذ يمكنها - بوصفها قوّة عظمى - توسعة ميدان حربها داخل العمق الإيراني، والَّذي يمكنه أن يشمل المرافق الحيويّة الأساسية.

جاءت هذه العمليّة كرسالة فحواها أنه يمكن للجيش الأميركي تغطية انسحابه بالقوّة إذا شاء ذلك، ما دام أنه القوي والقادر على رسم حدود ميدان الحرب وخطوط الاشتباك، في الوقت الذي لا يستطيع الإيراني أن يلعب خارج حدوده الإقليميّة، ولو صحّ توصيفه "بالقوّة العظمى إقليميّاً"، ولكنّ المفاجأة جاءت كالبرق في الزمان والمكان، وذلك بعد تصاعد النيران والدخان من البارجة الأميركية في ميناء "ساند ياغو" بعد أقل من أسبوع على حادثة "ناتنز".

توالت الأفعال والردود، ولكن هذه المرّة بنمط جديد يحمل عنوان الحرب السيبرانيّة، إذ قام الجانب الإيراني بالاعتراف بأنه تعرّض لآلاف الهجمات السيبرانيّة، ولكن الأميركي وقف مذهولاً أمام الحرائق التي نشبت في غير ولاية، مكتفياً بالتلميح إلى إمكانيّة قيام الصين (لا إيران) ببعض الأعمال التخريبية.

سيهمل التاريخ السياقات ويثبت النتائج

في المحصّلة، مهما سيكون من أمر المواجهة بين الطرفين، وما قد تحمله الأيام القادمة من سياقات وأحداث، فمن المستبعد أن تقوم القيادة الإيرانية بالعدول عن هدفها المعلن في إخراج الأميركي من المنطقة.

وعلى فرض نجاح الأميركي في الضغط العسكريّ "غير الاعتيادي واللاأخلاقي" على الطرف الإيراني، وتماهي الأخير مع نتائج العمليّة، من الممكن أن يعني ذلك الأمر تأمين انسحاب يحفظ ماء الوجه للقوات الأميركية من العراق، ولكنه لن يعني بالتأكيد القبول برسم خط اشتباك "التنف - الحضر".

لقد أكَّدت الأيام القليلة الماضية قدرة القيادة الإيرانية على الردّ على كل الاعتداءات التي حملت رسائل مضمرة، إن كان على مستوى العمليات الأمنيّة أو الهجمات السيبرانيّة، ودائماً وفق قاعدة الردّ بالمثل، وهو أمر مبرر عالمياً، وجزء من الحرب النظيفة، ومترسّخ في الوجدان الإسلامي للشعب الإيراني الذي يرفض الظلم، "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" (الآية الكريمة)، ولكنَّ الأيام القادمة ستؤكّد كذلك استمرار المواجهة مع العدوّ الأميركي، وتصاعد حدّتها حتى إخراجه من المنطقة مذلولاً مدحوراً.