"صفقة القرن".. بوابة الدخول في الزمن الأميركي الجديد
في استراتيجيا الصراعات، يجب على الطرف المهاجم إبقاء المبادرة الاستراتيجية في يده، وعدم السماح للخصم بالخروج من موقفه الدفاعيّ، وهذا هو دافع صناعة الحروب وتوليد الأزمات واختراع الأدوات.
مع توالي الأحداث وتعاقبها، يجد المتابع لما يجري في منطقة الشرق الأوسط معطيات دسمة تغني القارئ وتشجّع على تحليل وتشخيص ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في منطقة كانت، وما زالت، إحدى أهمّ بؤر التوتر العالميّ.
من الضّرورة بمكان تأكيد أهميّة هذه المنطقة في المنظور الأميركي، وأنّ الأميركيّ، رغم التوجّه شرقاً لضرورة استراتيجيّة مرتبطة بالاقتصاد، ما زال ينظر إلى منطقتنا على أنّها متمرّدة على إرادته، بحيث إن وجوده العسكري وحجم تحالفاته السياسية فيها لم يعودا يشكلان أهميّة في مقابل ما تتطلَّبه الحاجة الاستراتيجية الأميركية في ديمومة السيطرة على المعابر البحرية الثلاثة الأساسية في المنطقة، فضلاً عن مسألة النفط التي يبدو أنها بدأت تخرج من دائرة المتغيرات المؤثّرة في السياسة الاستراتيجية للبيت الأبيض.
لأربعة عقود خلت، وتحديداً من العام 1980، خاض الأميركيون سلسلة حروب في المنطقة ضمن مسارح متعدّدة عسكريّة وسياسيّة، ومؤخراً اقتصادية، إذ كانت الغاية - أو بتعبير آخر - الهدف غير المعلن لحروبه كافة، هو إرساء توازن هشّ وطويل الأمد، يبقي على مقاليد الأمور الأمنيّة بيده، بشكل لا يمكن لأحد أخذ المنطقة إلى مسار آخر لا يتوافق مع ما تريده أميركا.
وللغاية نفسها، قام في السابق بتحييد مصر عن مشهد الصراع بعد اتفاق "كامب دايفيد". وقد نجح في ذلك، وأبقى "دولة" الاحتلال في وضع اشتباك مع محيطها العربي، لإرساء ما يلزم من ذلك التوازن الهشّ والطويل الأمد.
في خضمّ تلك الاشتباكات، نجحت إيران في اختراق الصورة وقلب المشهد بشكل فاجأ الساسة الأميركيين أيما مفاجأة، إذ لم يكن أحد منهم يتوقع نجاح دولة بحجم إيران تنكّرت لكلّ إيديولوجيات العالم، ورفعت شعار "لا شرقية ولا غربية، جمهورية إسلامية"، معلنة بذلك ولادة إيديولوجيا جديدة في الإدارة والحكم.
واستمرَّ مسلسل المفاجآت عند دخول إيران معترك العمل العسكري المقاوم، ونجاحها في تأمين وجودها بداية، واختراق وجدان الأمّة العربيّة والإسلاميّة، ودعم مقاومتها لاحقاً، مؤمّنة موقعها كلاعب إقليمي قويّ من جهة، ومسيطرة على مسرح الأحداث السياسية والأمنيّة، وقريباً الاقتصاديّة، من جهة أخرى. ومصداق هذا هو محور الممانعة الّذي لم يعد مجرد شعار وكلام إعلاميّ، بل هو اتجاه أمميّ واقعيّ عمّد بالدم، وخاض أقوى الحروب وأشرسها.
لقد أردنا في كلِّ ما تقدّم من سرد تقديم توصيف شامل وواقعيّ لحال منطقتنا السياسي والأمني، كمقدمة لتحليل الوضع السياسي والأمني العام. وعلى الرغم مما حمله التوصيف والسرد السابق من مشاهد العزّة والانتصارات، فهذا لا يمكن صرفه في الاستراتيجيا مطلقاً، وذلك لعدّة أسباب منها:
- في استراتيجيا الصراعات، يجب على الطرف المهاجم إبقاء المبادرة الاستراتيجية في يده، وعدم السماح للخصم بالخروج من موقفه الدفاعيّ، وهذا هو دافع صناعة الحروب وتوليد الأزمات واختراع الأدوات. وعليه، مهما يكون من شأن المدافع الذي انحصرت انتصاراته في منع العدو من تحقيق هدفه المعلن (مثلاً منع إسقاط النظام السوري)، فهذا لا يعكس تأثيراً استراتيجياً ما دام المهاجم تمسّك بالمبادرة الاستراتيجية وضمن بها تحقيق غاياته الحربيّة.
- في استراتيجيا الصراعات أيضاً، يتم النظر إلى مشهد الصراع كميدان حرب واحد. وعليه، يتم تقسيمه إلى عدة مسارح حروب، ولا تكون الغاية من خوض الاشتباكات في المسارح كافة هي الفوز العملياتي أو تحقيق هدف الحرب المعلن، بقدر ما هي عملية كسب ميزات في مسرحٍ ما، كي تساعد على خوض الاشتباك في مسرح لاحق. وهكذا حتى خوض الاشتباك الحاسم في المسرح الأخير، وفرض الإرادة الكاملة على الخصم.
بناءً على ما تقدّم، وبالنظر إلى مسارات أحداث العقد الأخير منذ بداية ثورات "الربيع العربي" حتى الآن، نجد أنفسنا أمام سؤال مهم وكبير: ما كان هدف الحرب الأميركي غير المعلن على المنطقة؟ وما سرّ اهتمام الولايات المتحدة وممارستها لكلّ أنواع الضغوط السياسية والعسكرية على المنطقة بشكل لم يسبق له مثيل في التنوّع والاتّساع؟
بصراحة، وبعيداً من الجدل، وبالاعتماد على أسلوب الإحصاء وجمع البيانات لاستقراء الواقع وتحصيل المعرفة، نجد أنَّ الأميركي قام باستنفاد كلّ أوراقه الدبلوماسية والعسكرية، بغية رسم وجه جديد للمنطقة، يكون فيه الأقوى وصاحب الوضعية المطوّرة الجديدة القادرة على خوض الاشتباك الكبير الحاسم في مسرح الحرب الأخير.
ولتجنّب الإسهاب، فإنَّ التبدلات التي حصلت في منطقتنا، وإن كانت لم تغير شكل الخريطة السياسية أو تقلل من مستوى النفوذ الإيراني، فإنها حملت مشهداً جديداً خالياً من ديمومة بقاء الحضور القوي والفاعل لبعض الحركات الإسلامية وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين.
إنَّ ما حصل لحركة الإخوان المسلمين في مصر والسودان وقطر، ومحاولة الانقلاب في تركيا، وما يحدث لحركة حماس في السعودية واليمن، هو خير دليل على أن الجهد الأميركي كان يستهدف الإطاحة بهم وإزاحتهم عن مشهد الصراع، وإن ما حصل أيضاً في السعودية من تغيير للهوية الثقافية للمملكة واستبدال أخرى علمانية بها، هو دليل آخر على أن السعي الأميركي انصبّ مرة ثانية على طمس البعد الإسلامي في فكر أهل المنطقة وهُويتهم.
وكذلك الأمر، فإنّ جمع أبناء الفكر الوهابي من مخلّفات القاعدة وأبناء الفكر السلفي الجهادي في مقابل محور الممانعة، ليس حركة ذكيّة لضرب محور الممانعة أو إضعافه، بقدر ما يهدف إلى القضاء على كل أشكال الفكر الإسلامي لكل الحركات السياسية والجهادية لدى أهل السنّة والجماعة.
نعم، إنّها حقيقة جليّة أفرزتها أحداث العقد المنصرم، وليست تحليلاً فقط، ولكن ما يغني هذا التحليل هو أن تلك الأحداث سارت بالتوازي مع عمليات ثقافية ولوجستية وعسكرية، يبدو أن غايتها أدلجة الفكر العربي باتجاه اليمين المتطرف، الأمر الذي من شأنه تحديد معالم اشتباك المرحلة القادمة، بما يعطي للمستعمر الأميركي وضعية التفوق الكامل، وللمنطقة وضعية التناحر المؤكد، وصولاً إلى الاشتباك الدامي بين محور الممانعة وبيئته العربية، التي يبدو أنها ستكون ممانعة أيضاً.
بصراحة ووضوح، إنّ إحياء حالة الصراع العربي الإسرائيلي بأيدي ترامب وكوشنير، بحركة محورها "صفقة القرن"، وقضيتها القدس الشرقية والمسجد الأقصى، سيؤول حتماً إلى إحياء حالة الصراع العربي الإسرائيلي من جديد، وإن استعدادات الأطراف لتأمين ما يلزم من الأراضي لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في النقب وسيناء، وحتى في "نيوم" السعودية، لن تكشف عنها المرحلة القادمة إلا بوصفها استعدادات لوجستية كانت معنونة بعنوان "مفاجآت صفقة القرن"، وإن إصرار الطرف الأميركي على الاحتفاظ بمنطقة "التنف"، وتأمين وجود جيش العشائر أو "سوريا الجديدة"، ليس أكثر من استعدادات عسكرية ستوظّف في اشتباك المرحلة القادمة، بما سيستلزمه مقتضى ذلك الاشتباك.
إنَّ ملامح مشهد المرحلة القادمة - التي يبدو أنها ستشهد تقسيم المملكة العربية السعودية - ستكون ذاخرة بمجموعة أحداث موجّهة أميركياً، وموظفة في مجموعة اشتباكات صغيرة هدفها ضرب محور الممانعة، وغايتها القديمة الجديدة هي إعادة إرساء حالة التوازن الهشّ والطويل الأمد على امتداد كامل المنطقة، فهل تنجح في ذلك؟