هل تؤمن بنظرية المؤامرة؟

هل تؤمن بالمؤامرة؟ سؤال يتكرَّر طرحه في الكثير من حلقات النقاش، وغالباً ما يولّد اصطفافاً أوتوماتيكياً في محورين متناحرين: مؤيد لهذه النظريّة ومعارض لها.

  • هل تؤمن بنظرية المؤامرة؟
    عند تفنيد نظرية المؤامرة وتفكيكها، نأتي إلى خلاصة أن لا دخان من دون نار

تتشابه طبيعة هذا الخلاف الفكريّ الاستقطابيّ الحادّ مع جدليّة وجود الله من عدمه بين المؤمن والملحد. يتطرَّف مناصرو المحورين في الدفاع عن قناعتهم، وينحازون إلى تحليلات تتناسب موضوعيَّتها وصوابها مع موقفهم. 

تعريف المؤامرة

المؤامرة، في صلبها، هي عملية التخطيط السرية التي تُدير وتُسيِّر مجرى الأمور لتحقيق أهداف غير معلنة تخدم مصالح جهة معيَّنة. تتعارض هذه النظرية مع ما قد يُفسّر أنه المسار الطبيعي التطوري للأحداث. يتفرّع من هذا التعريف المبسّط سؤال أساسي يطرحه المشكّكون على أنفسهم: من هو المستفيد؟ 

وعادةً ما تُوجَّه أصابع الاتهام بالتآمر إلى الطبقة النخبوية ذات السلطة والمال والنفوذ من دول وأشخاص، بسبب قدرتهم على التحكّم بالشاردة والواردة وإخفاء أيّ دليل يُثبت تورطهم. 

أحداث من التاريخ الحديث

إذا ما استعرضنا شريط الأحداث المفصلية في التاريخ الحديث، فإننا نلاحظ أن المستفيد الفعلي منها ليس المتهم نفسه، ما يثير الشّكوك. الشرارة كانت أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 التي كان لها وقع مزلزل على أميركا والعالم، هو الأكبر منذ الحروب العالمية. 

غيّرت هذه الأحداث التي قيل عنها إرهابية هُوية الصراع العالمي، كما نعرفه. ولأن لكل مؤامرة شعاراتها وأبطالها وأشرارها، تبنّت جميع حكومات العالم عبارة "الحرب على الإرهاب"، التي أطلقها الرئيس الأميركي جورج بوش في أول خطاب له بعد الحادثة، واستقر الإجماع العالمي على اتهام أشخاص من خلفية إسلامية. 

شرّعت هذه الحرب احتلال دول، والاستيلاء على ثروات شعوب، وعقد صفقات بيع الأسلحة، وفرض عقوبات اقتصادية لا نزال نعيش تبعاتها إلى يومنا هذا. تحمّس عندها مناصرو نظرية المؤامرة للترويج بأنَّ أميركا تقف وراء هذه الهجمات، واتهموها بالتخطيط لها مع حلفائها على قاعدة "المستفيد = المتهم"، مستندين أيضاً إلى تفسيرات علمية وهندسية تدحض فكرة سقوط برجين بهذه الطريقة جرّاء اصطدام طائرتين بهما.

أثارت معظم الأحداث السياسية التي تلت هذا التاريخ ضجيجاً فكرياً عميقاً لدى الرأي العام، وخصوصاً العربي، حول المؤامرات التي تُحاك لمنطقتنا والشرق الأوسط الجديد المنشود، فتوالت في هذا السياق، وبشكل مثالي من ناحية التوقيت والأهداف، سلسلة من الأحداث: احتلال أفغانستان، ثم احتلال العراق، ثم عملية اغتيال الشهيد رفيق الحريري، ثم حرب تموز، ثم "الربيع العربي"، وصولاً إلى حروب سوريا واليمن، والنتيجة: الاستيلاء على الثروات الطبيعية، وإضعاف أعتى جيوش العرب، والسيطرة على القرار السياسي في معظم الدول العربية، ومحاولة إنهاك المحور الممانع واستنزافه اقتصادياً وأمنياً. والأهم، شرعنة كلّ هذه الأفعال دولياً. إذاً، من هو المستفيد؟ 

أدوات التّآمر

عند تفنيد نظرية المؤامرة وتفكيكها، نأتي إلى خلاصة أن لا دخان من دون نار، ولهذه النار وقود يُشعلها ويُهيجها. ما هو، إذاً، الوقود الذي يستعمله الغرب لإنجاح مخططاته السرية وتجييش الرأي العام لمناصرته وتصديق أفعاله؟ استطاع الغرب، بقيادة أميركا، أن يصمّم منظومة سياسية وإعلامية وثقافية ومالية وعلمية وطبية وتكنولوجية متكاملة ومتناسقة، أدارها بإتقان على مرّ السنين، ليتمكَّن من السيطرة على العالم.

نستعرض باختصار أبرز أدوات هذه المنظومة: 

- هوليوود: احتلَّت أميركا الصدارة في عالم صناعة الأفلام والمسلسلات بسرعة صاروخية، وأضحت رائدة في الإخراج والابتكار السينمائي، لتصبح منصّة واسعة الانتشار، فتجد في زحمة الأفلام الكوميدية والرومانسية والدرامية مساحةً شاسعة مخصَّصة للأفلام السياسية التاريخية الاجتماعية الجاسوسيَّة، مموَّلة من جهات لها أبعاد سياسية محددة، تُعيد صياغة الأحداث بما يتلاءم مع أجنداتها الترويجية.

- الموسيقى: كما صناعة الأفلام، أتقنت أميركا حرفة الموسيقى، وأصبحت مدرسة تُخرّج أساطير يخلدهم التاريخ. وتمكّنت أيضاً من تحديد النمط الموسيقي العالمي في حقبات مختلفة، لتكون مرة أخرى قادرة على إيصال رسائل ضمنية عديدة في السياسة والاجتماع والدين إلى شريحة كبيرة من شعب العالم. 

- السياسة: الأمثلة في السياسة كثيرة وواضحة أحياناً إلى درجة الوقاحة، ولعلَّ أبرزها عندما أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في العام 2006 عن مشروع الشرق الأوسط الجديد، وما نتج منه من فوضى خلاقة ممنهجة. وعند الغوص أكثر والتعمّق في لوجيستيات التخطيط المؤامراتي، يبرز اسم مجموعة "بيلديربيرغ" التي تضم نخبة من شخصيات العالم النافذة في الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا، والتي تُحاط اجتماعاتها بسرية غير معتادة، ويُقال عنها إنها حكومة الظل في العالم. 

- الاقتصاد: يتلاصق المسار الاقتصادي مع المسار السياسي ويغذّيه، والعكس صحيح. يتصدّر مؤتمر "بريتون وودز" قائمة الخطوات الاستراتيجية الاستباقية التي حاكتها الدول العظمى بعد الحرب العالمية الثانية لبسط نفوذها على الاقتصاد العالمي. نشأ إبان هذا المؤتمر في العام 1944 مفهوم ربط العملات بالدولار والذهب، معززاً فكرة التبعية للغرب، ومرسّخاً الفرضية الشائعة بأنَّ أميركا تسعى إلى إمساك العالم من "خوانيقه" مالياً واقتصادياً، وبالتالي الخضوع السياسي لها.

-التكنولوجيا: تُعتبر المعلومات (Data) العملة الأصعب والأثمن في عصرنا الحديث. والاستحواذ عليها، بطبيعة الحال، هو كنز تتسابق معظم الدول للوصول إليه. تندرج في هذا الإطار أبرز اختراعات القرن، وهي الأجهزة الذكية، مع ما يتشعَّب منها من تطبيقات وبرامج جعلت البشرية أسيرة لها ولشروط استخدامها التي تبيح للشركات، ومن خلفها الدول، الاستيلاء على معلومات خصوصية قيّمة. 

من الدّفاع إلى الهجوم

يتساءل المعارضون: أليست نظرية المؤامرة مؤامرة بحدّ ذاتها؟ يؤمن هذا المحور بأنّ الأحداث تجري وفق مسار طبيعيّ، وقد يستغلها البعض صدفةً لمصالح خاصَّة، وأنّ الجهود المبذولة من المحور المؤيد لوضعها في خانة المؤامرة، تهدف في جوهرها إلى تبرئة المتّهم الفعليّ.

وفي خضمّ هذا التراشق العقائديّ الفكريّ بين المحورين، ينزلق شعبنا العربي في فخّ الانهماك في إثبات المؤامرة وبرهانها، بدلاً من العمل على محاربتها وإفشالها. رَضِيَ عالمنا العربي بموقع المتلقّي الذي ينكبّ على التصدي للمؤامرات المتتالية، في ظل انقسام عمودي ضمن البيت العربي الواحد، ما أسَّس لبيئة حاضنة مثالية لتحقيق الأهداف المنشودة. ساهم هذا بشكل مباشر في تلكّؤنا وثنينا عن التقدم والتطور والازدهار، ألم يحن الوقت ليبادر العرب إلى الهجوم ومواجهة المؤامرة بمؤامرة؟