كيان العدوّ.. الحاجة إلى الحرب واليد المغلولة

الرهان على إدخال المنطقة في أتون حرب كبرى لضرب المقاومة وتقعيد ميزان أمن جديد أصبح ضرباً من الوهم بعد انفكاك المسارات في الغرب وعدم صلاحية منظومة الأمن العالمية - بصيغتها الحاليّة - على تغطية حرب كهذه.

  • لفترة معيّنة من الزمن، ساعدت أدوات الصّراع، وخصوصاً الآلة العسكريّة، في دعم كيان العدوّ بالأسلحة المتفوّقة
    لفترة معيّنة من الزمن، ساعدت أدوات الصّراع، وخصوصاً الآلة العسكريّة، في دعم كيان العدوّ بالأسلحة المتفوّقة

يتداول في الفترة الأخيرة مدى إمكانية قيام العدو الإسرائيلي بشنّ حرب على لبنان تستهدف المقاومة. وبما أن هذا التساؤل لا يأتي - بطبيعة الحال - في معرض الخوف والرهاب من ذلك الكيان وآلته العسكرية، فهو، إذاً، للاستفسار عن مدى توفّر أسباب موضوعيّة قد تدفعه إلى اتخاذ مثل هذا القرار.

في واقع الأمر، وبالنّظر إلى تطوّر المجتمعات الَّتي أخذت في عصرنا الحالي شكل الدول والاتحادات، فقد انحصرت مجموعة الدّوافع الّتي تؤدي إلى نشوب الصراعات المسلّحة إلى الحدّ الَّذي بات بالإمكان تشخيصها وتبويبها والبناء عليها، بعد أن كانت قديماً مفتوحة الأسباب، والتي قد تبدأ بظهور مرعى وكلأ جديد، ولا تنتهي مع نزوات الملوك والحكّام وصلفهم.

قرار الحرب في العصر الحديث

بشكل موضوعيّ وعام، فإنَّ حركة الشّعوب باتجاه مستقبلها مرتكزة على أمرين، الأول ماهية النظريّة التي تتحرك فيها الأفكار، وهي الصّراع، والآخر الخوف الَّذي يدفع باتجاه الحصول على الأمان.

الأمر الأوّل، أي الصّراع، ثابت إلى الآن، و تقوم عليه العلاقات البشرية، وما حالة التوازن الأمني إلا استثناء تسعى الشعوب والأمم باتجاهه، وغالباً ما تصنعه الحروب وتصونه التفاهمات. أما الأمر الثاني، وهو الخوف، فهو عامل إنسانيّ طبيعيّ متغيّر ما دام لم يجد المجتمع إلى الأمان سبيلاً.

وإذا ما أمعنّا النظر في هذا العامل المتغيّر، وتحديداً بلحاظ الظروف الذاتيّة لكل كيان مجتمعيّ، لوجدنا أنَّ الخوف على المصالح القوميّة والوطنيّة، مع تفاوت الظرف الذاتي لكل كيان، يعطينا 3 بيئات أو مجالات يتحرك فيها قرار الحرب، وتتشكل وفقها النزاعات المسلّحة. 

الأولى هي بيئة الدول الضعيفة التي تخاف التهديد الوجوديّ، وتكون طبيعة نزاعها المسلّح دفاعية مقابل عدوّ مهاجم، والثانية هي بيئة الدول القويّة التي تخاف على مكتسباتها الوطنيّة والقوميّة، وتكون طبيعة نزاعها المسلّح هجومية مقابل عدوّ مدافع.

أمّا الثالثة، فبيئة الدول العظمى التي تخاف النزول عن القمّة، وتصنع لأجل ذلك الحروب والأزمات والكتل المقابلة، وتكون طبيعة نزاعها المسلّح هي الاستعراض.

"إسرائيل" ودور الفتوّة في المنطقة

ربما خطأ كبير، بل هو كذلك، أن يُصار إلى زرع كيان غريب مع فوارق قيميّة هائلة في وسط لا يمكنه تقبّله، بل وأكثر من ذلك، أن يناط إليه أداء دور القويّ الذي عليه أن يهاجم الآخرين لتأمين مصالحه، في الوقت الَّذي كان، وسيبقى، يعاني من خطر الزوال والتهديد الوجوديّ.

لفترة معيّنة من الزمن، ساعدت أدوات الصّراع، وخصوصاً الآلة العسكريّة، وتوازنات القوى العالميّة والإقليميّة، ونظام الأمن العالمي، والكثير من الظروف الأخرى، في دعم كيان العدوّ بالأسلحة المتفوّقة، والدّعم العسكريّ والاقتصادي الهائل، والغطاء السياسيّ الكافي، وكانت "إسرائيل" تشنّ الحروب الاستباقيّة على محيطها العربيّ، وتخلق بذلك ما يلزم من توازن القوى الإقليمي، بما يضمن لها الاستمرار، وللولايات المتحدة خلق النزاعات وتوليد الأزمات.

تموز 2006 ومجموعة متغيّرات إقليميّة ودوليّة

 مضت حرب تموز/يوليو، وانتهى معها مشروع الشرق الأوسط الجديد بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية. أمّا بما يعني الكيان الإسرائيلي، فقد كشفت عن زيف أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وتأكّد في ما بعد وجود ما يلزم من أسلحة كاسرة للتوازن في يد المقاومة والمحور، قادرة على التعامل مع سيناريوهات متعددة الأذرع وعالية التنسيق.

ثمّ جاء "الربيع العربي"، لتحلّ فصوله في سوريا والعراق خراباً ودماراً، لم تنجلِ غباره إلا عن عراق موحّد وسوريا قويّة، فضاعت رهانات العدوّ الإسرائيلي، وبات التهديد الوجودي واقعاً أكثر من السابق، حيث تجلّت خشية العدوّ قصفاً متكرراً لمعبر البوكمال وغيره، في محاولة لتحديد قواعد اشتباك يتمّ ترسيخها لاحقاً. 

وفوق كلّ ذلك، جاءت عدّة متغيّرات دوليّة لتعكس حالاً مختلفاً لمستقبل الشرق الأوسط، ليس أقلها الانفكاك الأوروبي عن سياسة الولايات المتحدة تجاه قضايا الإقليم والمنطقة، أو السعي الأميركي الواضح للاهتمام بالخطر الاقتصادي الداهم من الشرق، تاركة مصير الكيان الإسرائيلي رهيناً بمجموعة اتفاقيات سياسية وصفقات شبه سريّة مع بعض محيطه العربي الضعيف، الذي يعاني أيضاً من خطر الانزلاق الاقتصادي والتفكك السياسي.

"إسرائيل" بين الماضي والحاضر

لم تكن "إسرائيل" يوماً صادقة مع ذاتها عندما اختارت لنفسها موضع القويّ، ورفعت وفق ذلك الاختيار سقف غاياتها الكيانيّة، مرتكزة في ذلك على جملة متغيّرات هشّة الأس ومصطنعة الحيثيّة، فالاتجاه الّذي ما زال يراهن على تقاطع المصالح الأمنيّة والسياسية مع الولايات المتحدة، أخرسه الحلفاء الأميركيون عندما واجهوا العام الماضي الدفع الإسرائيلي لهم باتجاه الحرب مع إيران، بأن واشنطن غير مستعدّة لخوض حرب بغية تحقيق أهداف إسرائيلية.

وكذلك الأمر، فالرهان على إدخال المنطقة في أتون حرب كبرى لضرب المقاومة وتقعيد ميزان أمن جديد، أصبح ضرباً من الوهم بعد انفكاك المسارات في الغرب وعدم صلاحية منظومة الأمن العالمية - بصيغتها الحاليّة - على تغطية حرب كهذه، إضافةً إلى سعي الولايات المتحدة نفسها إلى إبقاء التوازن القائم حالياً في المنطقة على ما هو عليه لضرورة التوجّه شرقاً.

يبدو أنَّ هذا الكيان بدأ يتصالح مع نفسه، فالاتجاه الَّذي بات يدفع ساسة العدوّ وقادته إلى بناء جدار على طول الحدود الشمالية، وإلى خفض الطلعات الجوية ولغة التهديد، بات بالتالي مقتنعاً بأنَّ هذا الكيان الّذي لم يستطع أن ينصهر مع محيطه، أو يمنع الآخرين من امتلاك السلاح الكاسر للتوازن، أو يهمّش قرار شعوب المنطقة، بالاعتماد على تآمر بعض الملوك والحكام، لن يكون بالتالي لاعباً قويّاً يرفع سقف غاياته، ويهاجم خارج حدوده، مدافعاً عن مكتسبات لم تتحقق يوماً ولن تتحقّق على الإطلاق.