48 عاماً على اغتيال غسان كنفاني.. لا تراجع عن خيمة "أم سعد"
مبكراً قرأ الشهيد غسان كنفاني في مشروع الاحتلال، وتعرّف إلى العوامل التي أسهمت في "الصعود" نحو "الهدف" الذي ستبنى عليه آفاق المشروع.
لم تزل خيمة "أم سعد" مسوَّرة بـ"برقوق نيسان" بلا ثقوب، كما تركها الشهيد غسان كنفاني، تعاند رياح التقلّبات السياسية وبرامج الاتكاءات اللفظية، لتستريح من غبار المدافع في جرش وعجلون، وخنادق الحالمين في ليل بيروت الطويل، أن ثمة قادماً من بعيد يطوي حصار السفن المدجّجة بفوهات المدافع.
لم يزل غسان كنفاني على أسوار عكا، يرتّب أسرار حيفا في خطوط هدنتها، ويفتّش عن "خالد" بعد أن غاب "خلدون" في دخان السّراب، وكأنّ صورة الحصار تحمل معها ليل الدخان المتصاعد من عكا، ليلتفت إليها الفتى كلّما اهتزت حجارة الطريق تحت قدميه.
عقود الغياب فتحت كلّ نوافذ الهواء، تحثّ الخطى نحو الضريح كي يستريح من أسئلة لم تجد بعد أجوبة لها في "غياب الوطن"، وتطرق بقوة المستحيل أنّ فلسطين هي لغة الرسوخ والتجذر في صراع الهوية.
أسئلة الشهيد غسان كنفاني، عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والروائي والمفكر، لم تكن بحثاً نظرياً في معادلة البقاء حياً، بل هي مرآة الواقع في خصوصية الحالة الفلسطينيّة ومقوّمات المواجهة مع الذات أولاً، والدفع إلى كسر أرتاج الغرف المغلقة.
هذه الخطوة كانت أولى مقدمات دراسة العامل الذاتي الفلسطيني، الذي اعتبره الشهيد كنفاني مفتاح الصعود نحو البناء الوطني، وبالتالي قراءة مشروع التهجير للشعب الفلسطيني، وفق ما تقدم من تفوق صهيوني لم يقتصر على القوة العسكرية، بل مهَّد لذلك بقصف فكري وسياسي وعسكري متواصل، بهدف تهشيم المخزون الثقافي الوطني الفلسطيني، وإحباط القوة المعنوية الكامنة في عقود المواجهة مع المحتل البريطاني الذي أنجز تهيئة الأرضيات للعصابات الصهيونية ورصفها.
مبكراً قرأ الشهيد غسان كنفاني في مشروع الاحتلال، وتعرّف إلى العوامل التي أسهمت في "الصعود" نحو "الهدف" الذي ستبنى عليه آفاق المشروع. وبالتالي تعرف في بحث عميق إلى جوهر الصراع الذي لم يكن ساكناً في تمدده، وذلك على مختلف الصعد.
من هنا كان الاقتران الفعلي في خمسينيات القرن الماضي مع فلسطين، والالتفات إلى أهمية تجذير الهوية الفلسطينية الجمعية، والبناء الوطني على قاعدة المواجهة المفتوحة مع المشروع الصهيوني، لتحرير كل ذرة تراب مغتصبة. هذا الأمر لم يكن محدوداً بعوامل معرفة آليات الآخر ومواجهتها فقط، وإنما انتقل إلى خطوات استباقية شكلت جدار الصد الأول في الاشتباك، وتفنيد مقولات "الانكفاء" نحو الداخل الفلسطيني وهموم اللجوء.
وانطلاقاً من جزئيات الصراع وما حملته من مفاهيم تبلورت في المحيط العربي الرسمي المحبط، اندفع الشهيد كنفاني مع جيل من النخبة الفلسطينية نحو قمة جبل الأسئلة التي أسهمت في تشكيل القوة الذاتية للمواجهة مع مفردات بناء الهوية الوطنيّة.
لم تكن المهمة سهلة في واقع اللجوء الفلسطيني وانكشاف هشاشة الأنظمة الرسمية العربية آنذاك، التي أظهرت عقم قراءتها للتمدد الصهيوني، وما يمور في داخله من مشروع ظهرت نتائجه بعد نكبة فلسطين في العام 1948، والتي أعقبتها نكبة أخرى في العام 1967.
ورغم تعقيدات المشهد السياسي بعد العام 1948، وحالة الفرز الدولي التي أعقبته، فإنّها شكّلت تمرداً على البؤس نحو تدافع الأسئلة الكبرى لدى الشعب الفلسطيني وبعض نخبه السياسية والثقافية والوطنية، لتجاوز الواقع الكارثي الذي خيم بظلاله، وهذا ما كان قد حققه الشهيد غسان كنفاني في تجاوز ذاته والواقع المحبط في آن معاً.
وقد أسهم بفعالية الحضور في بناء مشهد مغاير تماماً لما فرضه الواقع المأساوي، وبالتالي طوَّع اللغة الروائية والثقافية، لتكونا حامل التغيير نحو بندقية "أم سعد" وخيمة المقاومة في فعل استمرارية المواجهة، كي لا نسقط في النسيان والاندثار.
إذاً، لم يكن الشهيد غسان كنفاني يطرح أفكاراً نظرية تتكئ على الترف السياسي، بل كانت ترجمة عملية للبحث العميق في قراءة مشروع الاحتلال. ومن هنا جاءت دراساته الكثيرة التي سلَّطت الضّوء على آليات المواجهة وتصعيد المقاومة.
ما طرحه الشهيد غسان كنفاني في مسيرة حياته القصيرة، تجاوز في أثره مراحل كثيرة من "التنظير" و"العبث" السياسيين بالقضية الفلسطينية. وقد ركز في إرثه الثقافي والفكري والوطني على العلاقات المفتوحة والصريحة مع أبناء فلسطين، وتحسَّس همومهم الوطنية والاجتماعية، وهو ما ميّزه في فهمه للمخيم الفلسطيني الذي شكَّل لديه منطلقاً نحو البناء المعرفي المقرون بالبناء الوطني.
وقد حذَّر مبكراً من التلاعب بالمفردات الوطنية، وركّز على عدالة قضية فلسطين، وأوصل الصوت إلى العالم، في خطاب لم يهادن على الثوابت، بل شكلت الثوابت مرتكزات الخطاب الثقافي والسياسي.
من المهم هنا أن ندقّق في أن المعرفة السابرة للتجمع الصهيوني في ما كتبه الشهيد غسان كنفاني، أسهمت في صياغة خطاب ثقافي وطني منيع، كشف طبيعة الكيان ومشاريعه المستقبلية التي كانت في سياق التنفيذ. ولم يقف الشهيد عند حدود تشريح كيان الاحتلال ونظرياته الثقافية والسياسية، بل تجاوز ذلك إلى أدق تفاصيل الواقع الداخلي الفكري والعسكري.
48 عاماً على اغتيال الشهيد غسان كنفاني، ولا زال ألق حضوره يزداد في مشهد المواجهة، ولم يتراجع أبناء أم سعد عن خيمة المقاومة التي يريدها "البعض" مجرد ديكور في مشهد طاولات التفاوض، وهو ما حذر منه طيلة سنوات نضاله، مشدداً على أن قضية فلسطين ليست لعرض الأفكار ونزال الخطابات، إنما هي قضية شعب لن يسلم ويستسلم.
ويتجذّر ذلك في ما كتبه، مشدداً على أننا يجب "أن نبقى وراء العدو في كل مكان"، وهي رسالة تختزن في ما وراء الكلمات جوهر ثقافته الوطنية... الثقافة التي تقترب من جماهيرها، وتعلن اصطفافها إلى جانب من ظلوا على عهد الشهداء، ولم تلوّثهم فنادق المدن.