محور المقاومة وإمكان تأسيس السوق المشتركة
لقد آن الأوان لمحور المقاومة أن يبدأ عصر الاقتصاد السياسي، ويقدم رؤيته لحل المشاكل الاقتصادية والمالية، من خلال مؤتمر اقتصادي يحضره علماء ومفكّرون ومتخصّصون.
خرجت الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية باقتصاد مدمّر، وفوارق اجتماعيَّة كبيرة، وتهديد شيوعي من الكتلة الشرقية، وكانت تتساءل عن كيفية بناء مجتمعات جديدة مزدهرة، تنبذ الحروب والأفكار المتطرّفة التي تسبّبت بالحربين. وجاءت أولى مناشدات التعاون الاقتصادي الإقليمي داخل أوروبا من قبل أساتذة الاقتصاد وعلماء الفكر السياسيّ الراغبين في تشكيل تعاون عبر مؤسَّسات الدول في المجالات الاقتصادية والمالية والنقدية.
بدأت المرحلة الأولى في تأسيس منظَّمة التعاون الاقتصادي الأوروبي، لإدارة مشروع مارشال الأميركي في تنظيم تقديم المساعدات الأميركية التي تضمَّنت تقديم 12 مليار دولار في العام 1948، إلا أنَّ الولايات المتحدة اشترطت شراء كل ما تريده الدول الأوروبية من المصانع الأميركية.
وبعد الحرب العالمية الثانية التي لم يمرّ عليها في ذلك الوقت أكثر من 5 سنوات، وفي العام 1951، اقترح وزير الخارجية الفرنسي آنذاك، روبرت شومان، تشكيل مجموعة أوروبية للصَّلب والفحم، تتولى إدارة مشتركة لإنتاج الصلب والفحم، وتطوير هذا القطاع الحيوي للصناعة الأوروبية. وتعدّ صناعة الحديد والصلب من أهم الصناعات الأوروبية، حيث يشكل الصلب المادة الأساسية للعديد من الصناعات، من مثل الآلات الهندسية ومعدات البناء والتشييد والمركبات.
ورغم أنَّ العلاقات الألمانية الفرنسية كان يسودها عدم الثقة، فقد وافقت 6 دول أوروبية على تنظيم إنتاجها الصناعي تحت سلطة مركزية، وهي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ. وقد تبلور هذا الاقتراح بتوقيع معاهدة المجموعة الأوروبية للصلب والفحم (معاهدة باريس) في العام 1951، وكان من أهم مبادئها إلغاء الحدود والعوائق أمام تجارة الصلب والفحم بين الدول الموقّعة، واتباع سياسة موحّدة ضد الدول خارج المجموعة، وحرية تنقّل الأيدي العاملة بين دول المجموعة.
مع نجاح الدول الستّ في تحقيق أهداف المعاهدة، توجَّهت إلى تأسيس المجموعة الاقتصادية الأوروبيّة في العام 1957، لتحقيق التكامل الاقتصاديّ والسياسيّ في أوروبا، وحقَّقت لاحقاً نجاحاً كبيراً ساعد على رفع مستوى معيشة الأوروبيين ومضاعفة التبادل التجاريّ 6 مرات بحلول العام 1970.
وفي العام 1957 أيضاً، اتفقت الدول ذاتها على إنشاء المجموعة الأوروبيّة للطاقة الذريّة، ثم أطلق اسم السّوق الأوروبيّة المشتركة على المجموعتين (المجموعة الأوروبيّة للصّلب والفحم والمجموعة الاقتصاديّة الأوروبيّة).
وفي العام 1965، انصهرت كل من المجموعة الأوروبية للصلب والفحم، والمجموعة الاقتصادية الأوروبية، والمجموعة الأوروبية للطاقة الذرية، في تشكيل نظام إداري موحّد، وهو المجموعة الأوروبية.
إن التهديدات الوجودية التي واجهتها الدّول الستّ بعد الحرب العالمية الثانية، من اقتصاد مدمّر، ونسيج اجتماعيّ ممزّق، وتخوّف من اجتياح شيوعي، جعلها تعمل بجدية ونشاط لخلق بيئة جديدة قائمة على السيادة والاعتماد على الذات في مواجهة التحديات المختلفة.
ولعلَّ القلق الأكبر كان من النشاط الشيوعي الذي أدى إلى حرب أهلية في اليونان (1946-1949)، حيث قدمت الدول الشيوعية الدعم الكامل للحزب الشيوعي اليوناني، الذي استفاد من أزمات اليونان الاقتصادية والسياسية والاجتماعية خلال الحرب العالمية، وتمكّن من التموضع في المجتمع اليوناني، طارحاً أفكاره اليسارية أمام اليمين، وكاد أن يحقّق نصراً كبيراً لولا الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة وبريطانيا لليمين اليوناني.
إنَّ استراتيجية انقلاب البيئة التي تعتمدها الولايات المتحدة في مواجهة دول محور المقاومة أو حركاتها، وذلك بفرض حصار اقتصاديّ صارم، وما يتبع ذلك من معاناة وآلام لدى الشعوب، لا يمكن أن تحلّ بالشعارات والدعوات إلى التحلي بالصبر والانضباط الاجتماعي، ولا تكفي خطابات المؤامرة الاستعمارية الصهيونية التي هي بالفعل موجودة، كما لا تكفي نداءات الصمود للجماهير التي هي بالفعل صابرة، ولم تبخل بشيء في زمن الحروب.
إنّ المفكّرين وأساتذة الاقتصاد والمال في محور المقاومة مدعوون أكثر من أيّ وقت مضى إلى تقديم رؤى واقعية في كيفية مواجهة الحصار الأميركي. ومن هنا، أناشد علماء الاقتصاد والمال إلى تنظيم مؤتمر اقتصادي عاجل، لبحث التهديدات الوجودية الّتي تواجهها دول محور المقاومة، وعدم الاعتماد على المسؤولين المعنيين فقط. وإذا كان محور المقاومة لم يعمل على إنشاء مجموعة أو كتلة اقتصادية تستكمل الجبهة السياسية والعسكرية التي حققت انتصارات كبرى، فإنّ الوقت قد حان.
وعند مراجعة آراء الخبراء الاقتصاديين، نرى أن العلاقات السياسية بين دول المقاومة تشجع على البدء بدراسة بعض السياسات والأساليب التي قد تتطور إلى معاهدة اقتصادية. وهنا، نقصد بدول المقاومة الجمهورية الإسلامية في إيران وسوريا ولبنان واليمن وفنزويلا وكوبا، وربما العراق.
ومن خلال مراجعة المعاهدة الاقتصادية الأولى في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، نجد أنّها جاءت من مفكرين اقتصاديين وماليين. على سبيل المثال، ما المانع من أن يتقدم الخبراء بدراسات عن إقامة اتحاد جمركي بين دول محور المقاومة، ما يسهّل حركة الاستثمارات والعمالة، واعتماد سياسات اقتصادية وتجارية موحّدة تجاه الخارج؟
ويمكن أيضاً لخبراء آخرين تقديم طرق للمقايضة في عملية التبادل التجاري بين دول هذا المحور، بدلاً من الدولار الأميركي. والجدير بالذكر أن التبادل التجاري كان يتم بالعملة المحلية قبل اتفاقية "بريتون وودز" في الولايات المتحدة في العام 1944، ولكن هذه الاتفاقية جعلت من الدولار العملة العالمية. وتوجد دول كبرى غير الولايات المتحدة الأميركية تمتلك حيزاً كبيراً من التجارة الدولية، مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا ونيجيريا.
وقد خطت تركيا باتجاه التعامل بالعملات المحلية مع دول الجوار، كإيران، ودول كبرى، كالصين وروسيا، ووقَّعت مع روسيا اتفاقية استخدام العملات المحلية في العمليات التجارية بشكل تدريجي، عبر إنشاء البنية التحتية المناسبة للسوق المالية، وتحفيز المؤسسات التجارية لدى البلدين على التخلي عن الدولار.
ومن الأساليب المهمة في التعاون الاقتصادي والمالي، إلغاء تأشيرات الدخول بين دول المحور، وتنشيط حركة النقل، وتسهيل عملية التبادل التجاري، وتبادل الخبرات وتفعيلها عبر اتفاقيات اقتصادية، وتشجيع التبادل العلمي والثقافي، وتنشيط السياحة بأنواعها المختلفة. ولعل من أهم الأمور في التعاون الاقتصادي مكافحة الفساد، ذلك أن البيئة الاقتصادية السليمة تتطلب إغلاق المنافذ على الفاسدين والمتلاعبين بالقانون.
لقد آن الأوان لمحور المقاومة أن يبدأ عصر الاقتصاد السياسي، ويقدم رؤيته لحل المشاكل الاقتصادية والمالية، من خلال مؤتمر اقتصادي يحضره علماء ومفكّرون ومتخصّصون. ومن خلال هذا المؤتمر، يمكن تحديد الأهداف والأساليب، والتّخطيط لإنشاء هيكلية اقتصادية ومالية وبنية تحتية، والتمهيد لاتفاقيات ومعاهدات وسياسات اقتصاديّة موحّدة.
إن أولى الخطوات الفعلية لتقديم رؤية اقتصادية تكون عبر تأسيس جمعية اقتصادية خاصة بمحور المقاومة، تضم المتخصصين في مجال الاقتصاد، لتوثيق روابط التعاون بين الجمعيات الاقتصادية والمالية وعلماء ومفكري الاقتصاد، وتفعيل دورهم المهم.
إنَّ الجمعية الاقتصادية تستطيع تقديم رؤى لتحقيق السوق المشتركة، عبر معرفة الواقع الاقتصادي الحالي بكل إيجابياته وسلبياته في دول المقاومة، ثم العمل على استكمال التكامل الاقتصادي بين هذه الدول كتكتل اقتصادي، وهي أهداف ومهمات الجمعية التي من الممكن أن تكون النواة لتنشيط البحث العلمي، والمساهمة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتعاون مع المؤسسات الحكومية المعنية بالتنمية الاقتصادية، وإقامة المؤتمرات والزيارات، وتبادل المعلومات بين المؤسسات.
وقد بات قيام سوق مشتركة لمحور المقاومة ضرورة اقتصادية، لما تحقّقه من أهداف اقتصادية، ولعل أهمها تقليل الاعتماد على خارج دول المحور في استيراد السلع اللازمة، وإقامة الصناعات المطلوبة للصمود أمام الصناعات الأخرى، والإنتاج من خلال المشروعات الاقتصادية المشتركة، والتعاون في تنمية البنية التحتية.
إنّ إنشاء السوق المشتركة يؤمّن قيام كتلة اقتصادية لدول المقاومة، بما يعني من تحييد أو خفض لمخاطر العولمة الاقتصادية، ثم الدخول في المنافسة مع التكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية في النظام العالمي الجديد، فالانتصار العسكري والسياسي يتطلّب حتماً المواجهة الاقتصادية بقوة اقتصادية مقابلة، حتى يتمكن محور المقاومة من التأثير في الاقتصاد العالمي، بدلاً من البقاء تحت الضغوط الأميركية.
وقد صارت إقامة مثل هذه السوق ضرورة، لما تحققه من مكاسب سياسية، تتمثل في الوحدة السياسية، والاستقلال الاقتصادي، وانتقال رؤوس الأموال، وتشجيع التبادل التجاري، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وزيادة معدل النمو الاقتصادي.
لذا، على الجمعيات الاقتصادية وخبراء الاقتصاد في محور المقاومة مسؤولية أخلاقية، شأنهم شأن علماء ومفكري الاقتصاد في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، في التحرّك لعقد الاجتماعات والندوات الداعية إلى إقامة السّوق المشتركة، والتواصل مع حكومات الدول، بتقديم رؤى واقعية في تشكيل تكتل اقتصاديّ قادر على مواجهة الحرب الاقتصادية الأميركية.