ترامب المناسب لتفكيك أميركا

هذا الحراك وهذه الاضطرابات لا تشبه ما سبقها من اضطرابات، فقد اختلط العنصري بالطبقي والعرقي والعقائدي، ليرسم مشهدية من نار.

  • ترامب المناسب لتفكيك أميركا
    ترامب رافعاً الانجيل قرب كنيسة سانت جونز في واشنطن يوم 1 حزيران/يونيو 2020 (أ.ف.ب)

تتسارع الأحداث ويتصاعد التوتر بعد قتل ضابط في الشرطة الأميركية المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد خنفاً، والّذي كان بمثابة شرارة أشعلت فتيل التظاهرات الحاشدة والمواجهات العنيفة في كلّ المدن الأميركية، وأطلقت حملة التّضامن العالمية في مواجهة العنصرية والفاشية المتأصّلة في المجتمع الأميركي والإجراءات والتبعيات الاقتصادية المزرية المتراكمة على أكتاف أكثر من 30 مليون أميركي من العمال والموظفين وصغار التجار، وغالبيتهم من أعراق مختلفة، ممن فقدوا أعمالهم وأموالهم بفعل الإجراءات المتّخذة لمواجهة كورونا، وفشل إدارة الرئيس الأميركي التي كان جلّ اهتمامها دعم الشركات الكبرى، وإهمال القطاعات الواسعة من ذوي الدخل المحدود، فالإعانات الحكومية المحدودة التي قدَّمتها الحكومة لم تفلح في تجنيب الآثار السّلبيّة، وأصبح الملايين في مواجهة مصيرهم البائس من الإفلاس والفقر بعد فقدانهم وظائفهم، ولا أمل في عودتهم إليها قريباً.

إنّ المجتمع الأميركيّ الّذي تسيطر على اقتصاده وثرواته أقلية بيضاء لا تتجاوز 1 في المئة من السكّان، وازدادت ملياراتها بفعل أزمة كورونا، يشهد حالة استقطاب حادّة على كلّ الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعرقية، ساهمت في تسعيرها ممارسات الرئيس ترامب وسياسته العنصريّة، والصراع الحاد بين الحزبين على السّلطة، والذي لم تشهده الولايات المتحدة منذ عشرات السّنين.

هذا الحراك وهذه الاضطرابات لا تشبه ما سبقها من اضطرابات، فقد اختلط العنصري بالطبقي والعرقي والعقائدي، ليرسم مشهدية من نار. وقد اعتبر ترامب المتظاهرين في هونغ كونغ وفي البلدان المناوئة للأنظمة المعادية لأميركا أبطال حرية، وهدد بالتدخل الأميركي المباشر لحمايتهم، ووصف ملايين المتظاهرين في الولايات المتحدة من المحتجّين على التمييز العنصري وعلى سياسته بأنهم بلطجية، وهدَّدهم بمحاكمات جنائية وتوريط الجيش لقمع المحتجين، واستخدم الدين في مواجهة المتظاهرين وشحذ عواطف أتباعه من العنصريين والإنجيليين والمسيحيين الجدد.

ويوجّه ترامب الاتهامات إلى الجميع، من الديموقراطيين وحكّام الولايات واليساريين، وخصوصاً منظّمة "أنتيفا"، والأقليات والسود وأيادي خارجية، وينسى نفسه. 

يتذكّر البعض فقط ما حدث في الماضي القريب، عندما انهار الاتحاد السوفياتي، ودور كلّ من غورباتشوف والسكير يلتسن، الفاسد والمثير للسخرية. آنذاك، كانت الغالبية من المواطنين السوفيات والعالم كله يسخر منه ومن بلاده. ومثل عملاق بقدمين من طين، انهار الاتحاد السوفياتي العظيم فجأة في لحظة ماجنة، حين وقع انقلاب عسكري انتهى بتفكّكه.

ترنّح العملاق، وسقط فجأة وسط ذهول العالم. قد تختلف الظّروف والعوامل، ولكن اليوم، تبدو الولايات المتحدة وكأنها دخلت اللحظة السوفياتية أو اقتربت منها، فثمّة زعيم يترنّح، ولن يتوانى عن إشعال حرب أهلية ما لم يفز في الانتخابات الرئاسية القادمة، رغم أن استطلاعات الرأي تشير إلى تفوّق بايدن. وبالتالي، ليس مستغرباً أن يطلب ترامب من أنصاره المخلصين النزول إلى الشوارع، وبالسلاح، لحماية أميركا التي تترنّح، بحجّة أنّ الانتخابات جرى تزويرها. 

إنّ اللجوء إلى قوّة الشرطة، وحتى الجيش، وإعلان حالة الطوارئ ومنع التجوّل، لن ينهي المشكلة، ولن يحمي أميركا من التفتّت والحروب الأهلية، إنما يكون ذلك بإزالة الأسباب الأساسية التي أودت إليها.

في العام 1987، نشر ألفين توفلر (Alvin Toffler)، وهو كاتب ومفكّر أميركي وعالم في مجال المستقبليات، مجموعة من الكتب، تنبّأ فيها بانهيار الاتحاد السوفياتي في غضون بضع سنوات، وهو ما تحقّق بعد بضع سنوات فعلاً. ولم يكتفِ بذلك، بل أضاف: "انتبهوا، بعد 35 أو 40 عاماً، سوف تختفي الولايات المتّحدة الأميركيّة، وستُشكّل أوروبا أخرى، وسوف تحلّ إيديولوجيات محلّ إيديولوجيات العصر الصناعي".

نطق المواطن الأميركي الأفريقي جورج فلويد وهو يُخنق من قبل شرطي أميركي: "أريد أن أتنفس"، ومات فلويد خنقاً، آلاف الأميركيين يخرجون في تظاهرات يومية ومواجهات مع الشرطة وهم يرددون عبارة "فلويد"، ومعهم يردد العالم "نريد أن نتنفس".