المقاومة وأزمة التغيير في لبنان

ينادي اللبنانيون اليوم بإسقاط النظام، غير أنّهم لا يعون أبعاد لازمة "إسقاط النظام" وخطورتها، والأخيرة تحتمل مفهومين: الأول فضفاض والآخر مُنضبط.

  • المقاومة وأزمة التغيير في لبنان
    المقاومة وأزمة التغيير في لبنان

في 4 آب/أغسطس 1969، وعلى أثر حملة نيابية داعية إلى إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية، أعلن الرئيس فؤاد شهاب عزوفه عن الترشح. حجته كانت، أولاً، عدم وجود إجماع وطني ونيابي عليه، وثانياً لقناعته بـأن "لا إصلاح في البلاد من دون تغيير في النظام السياسي، وأن البلاد في الوقت نفسه غير مؤهلة لقبول هذا التغيير".

الفاصل الزمني بين موقف الرئيس شهاب والأحداث الراهنة التي يشهدها الواقع اللبناني، لا يعني نفي أيّ مشترك بينهما، ففي حكمة الرجل وحنكته في ممارسة العمل السياسي بشكل عام، والحُكم بشكل خاص، مقاربة يُمكن إعمالها ضمن بُعدين: الأول، مشروعية السلطة. أما الآخر، فهو "إسقاط النظام" في لبنان. 

في البعد الأوّل، رفض الرئيس شهاب الترشح إلى الرئاسة الثانية، على الرغم من توفر أصوات نيابية تؤهله للفوز بولاية ثانية. كان قراره نابعاً من "الطمع" بإجماع المشروعية عليه. سبقت رؤيته واقعنا الحالي في جانب أخلاقي وآخر دستوريّ، فالقيادة في نظره تكليف، وليست تشريفاً، و"الشعب هو مصدر السلطات وصاحب السيادة..." (فقرة "د"، مقدّمة الدستور اللبناني الحالي). كما أن "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك" (فقرة "ي" من الدستور).

في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، قال الشعب اللبناني كلمته عبر تظاهرات شكلت "ثورة" اللبنانيين على أنفسهم أولاً وقبل أيّ شيء، وصرخة في وجه الطبقة السياسية الحاكمة التي عاثت في الوطن فساداً وأهلكت العباد، بعد أن أمعنت في مخالفة روح اتفاق الطائف ومضمونه، مستعينة بـ"الطائفية السياسية" كغاية بحدّ ذاتها، وليس كوسيلة مرحلية لبناء الدولة. 

وفي هذا الإطار، يقول الراحل السيد هاني فحص: "الحديث عن الطائفية في لبنان، كما في بلاد العرب والمسلمين، هو أيضاً حديث عن الدولة التي لم تأتِ إلا ناقصة، وتم تفريغها من كل معانيها ووظائفها لمصلحة السلطة بمعناها الانفصالي والإلغائية، ولمصلحة السلاطين الذين لم يجدوا حرجاً في اتخاذ المال العام منهبة، والوطن مزرعة، والمواطنين خدماً، حتى عزّت الحرية حيث عزّ الخبز، أو عز الخبز حيث عزّت الحرية".

إن الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان اتخذت من الطائفية السياسية بعد اتفاق الطائف وسيلة للإقطاع السياسي وتقاسم المغانم والامتيازات، كما أسرت إرادة اللبنانيين، فصاروا مرهونين بالانتماء إلى طوائفهم والاحتماء وراء الزعامات الحزبية، وليس الانتماء إلى "الدولة" التي يسعون الآن إلى قيامها من بين أنقاض الفساد والإهمال والجوع! 

كل ذلك أدى، ولا يزال، إلى ضرب ميثاق العيش المشترك، الذي، أياً تكن النظرة إليه، لا ينحصر مفهومه بتسوية تاريخية بين الطوائف اللبنانية، إنما يتعداه إلى مفهوم وظيفي يتجلى في بناء دولة مستقلة وعادلة، وهو ما لم تركن إليه الطبقة السياسية بمختلف أطيافها. 

انطلاقاً مما تقدم، ولأن الشعب اللبناني هو صاحب السيادة، ولأن الطبقة السياسية الحاكمة أمعنت، ولا تزال، في انتهاك حقوق الإنسان والمواثيق الدولية وميثاق العيش المشترك، تفقد هذه الطبقة شرعيتها للاستمرار، وعليها الرضوخ للمطالب الشعبية، وجُلّها مطالب اجتماعية واقتصادية محقة. 

وفقدان شرعية الطبقة السياسية الحاكمة ليس محصوراً في مجلس الوزراء (الحكومة)، إنما في كل المؤسسات الدستورية المتبقية، ولا سيما المجلس النيابي. ولا يكون لتلك المؤسّسات الدستورية مشروعية إلا بالقدر الذي تستجيب فيه لمطالب الناس، وإلا يكون وجودها أشبه بالاحتلال، ويبرر للعامة استمرار تحركاتها نحو التغيير، الذي بدوره يحتاج إلى ضابط سياسيّ ودستوريّ، كي لا ينتج أزمة تُسمى "إسقاط النظام"، وهذا ما يدعو إلى مقاربة البعد الثاني.

ينادي اللبنانيون اليوم بإسقاط النظام، غير أنّهم لا يعون أبعاد لازمة "إسقاط النظام" وخطورتها، والأخيرة تحتمل مفهومين: الأول فضفاض والآخر مُنضبط. المفهوم الأول عاطفي يطلقه الشعب، ويُعبر عن إسقاط الهيكل بأكمله. أما الآخر، فهو أكثر واقعية، ويُقصد به إسقاط الحكومات، وكلاهما لا يخدم الهدف المنشود من التظاهرات (الإصلاح)، بل على العكس، قد يُطيحان بكل مكتسباته، فالمطلوب إسقاط المنظومة الفاسدة وليس النظام، وإن كان مهترئاً، فلا إصلاح في البلاد إلا بتغيير في النظام السياسي القائم في لبنان، ولكن كيف يمكن تغيير هذا النظام؟

في الواقع، يتّصف النظام السياسي في لبنان بأنه برلماني (الفقرة "ج" من مقدمة الدستور). بعبارة أخرى، هو يكفل التعاون بين السّلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو نظام يولي مجلس النواب، المنتخب مباشرة من الشعب، حق إصدار التشريعات ومراقبة أعمال السلطة التنفيذية، ولكنه أيضاً نظام طائفي (المادة 22 والمادة 24 و95 من الدستور اللبناني) يُنتج حكومات من مكونات الكتل السياسية النيابية المنتخبة على أساس طائفي، وليس وطنياً!

لقد أثبتت التجربة العملية في لبنان أنّ النظام الطائفي يعطّل الدور الرقابي للمجلس النيابي، بما يُعزز "التعاون" المشبوه بينهما على حساب المراقبة الفاعلة، وذلك بسبب الطائفيّة السياسيّة وما يُسمى "الديموقراطية التوافقية"، فتصير السلطتان التشريعية والتنفيذية متواطئتين على حساب تحقيق العدالة الاجتماعية وبناء دولة القانون والمؤسَّسات. 

لهذه الأسباب، لا يمكن، من الناحية المنطقية، التوصل إلى أي إصلاح جذري وفعلي في لبنان إلا بمعالجة أصل المشكلة الكامنة في التركيبة النيابية وآليات انتخابها، وليس في إسقاط الحكومات أو بقائها، لأن تغيير النظام السياسي يفترض ابتداءً تغييراً في منهج المجلس النيابي وتكوينه. فهل الشارع اللبناني، حالياً، مستعد لتقبل هذا النوع من التغيير؟ 

إن الإجابة على السؤال المطروح تستوجب المقاربة انطلاقاً من تاريخ لبنان السياسي، فلبنان منذ نشأته كان، ولا يزال، يعاني 3 أزمات: أزمة دولة، وأزمة نظام (حكم)، وأزمة كيان (هوية)، ولا يمكن إيجاد حلّ لأي أزمة من الأزمات الثلاث بمعزل عن الأخرى. 

تحاول الطبقة السياسية اليوم إيجاد حل لأزمة الدولة، غير أنها تَغفل عن ضرورة إيجاد حل مناسب لأزمة الكيان اللبناني، ولا سيما في ما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي والموقف من القضية الفلسطينية. 

وعلى الرغم من أنَّ اتفاق الطائف كرّس هوية لبنان العربية (الفقرة "ب" من مقدمة الدستور اللبناني)، فإن الأحزاب اللبنانية الحالية (جُلّها طائفي) والشارع المنتمي إليها، يختلفان على دور لبنان في هذا الصراع، ولا سيما دور حزب الله وقرار الحرب والسلم مع الكيان الصهيوني. هذا الاختلاف سبق أن عطَّل المؤسسات الدستورية، وهدد الكيان اللبناني، وأفرز انقساماً حاداً بين اللبنانيين، تُوج بالتحرك الميداني للمقاومة في السابع من أيار/مايو 2008. 

المقاومة اليوم أقوى عسكرياً من أيّ وقت مضى، وهي طرف أساسي في الساحة السياسية، ولكنها في المقابل، لا تمتلك الشرعية المطلقة على مستوى الكيان اللبناني. قَدَر لبنان في التاريخ والجغرافيا يجعل من حياده وانعزاله عن الأحداث الإقليمية والدولية - وهي بالغة الدقة والحساسية - أمراً مُتعذراً. 

إن ازدواجية دور المقاومة في الساحة اللبنانية تضعها في موقع الاستهداف من قبل مجموعات من المتظاهرين، كما تضعها في موقع الاستهداف المباشر والمقصود من قبل خصومها السياسيين. كل ذلك يؤدي إلى احتقان خطر في الساحة اللبنانية.

 بدوره، يدفع الاحتقان المذكور إلى استجرار التدخل الخارجي وتسهيل التصويب على المقاومة. هنا، تعود أزمة الكيان اللبناني إلى الواجهة؛ أزمة كانت كفيلة بإشعال الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975 بعد سلسلة من التوترات الداخلية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية. 

في المحصّلة، يُفرز المشهد السياسي اللبناني حقيقتين: الأولى، أننا أمام فرصة تاريخية ونادرة لمشروع بناء دولة قانون ومؤسّسات في لبنان، والثانية أننا أمام استحقاق إقليمي خطر يُشكل سلاح المقاومة أحد عناصره. ويحصّن تكامل المشهدين التحرك الشعبي، ويمنعه من الانحراف عن مقصده وتوجيهه نحو الصراع الطائفي، وبالتالي اندلاع حرب أهلية لبنانية جديدة تحقق مآرب المتربصين بالمقاومة، وعلى رأسهم العدو الصهيوني، وتزجّها فيها لتسلبها كلّ شرعيتها.

انطلاقاً مما تقدم، يغدو البحث عن حلّ بأقل تكلفة دموية وأمنية ممكنة واجباً أخلاقياً ووطنياً ودينياً، يبدأ من تحديث جوهر تركيبة النظام السياسي اللبناني (برلماني - طائفي)، وذلك قابل للتحقيق من خلال تعديلات دستورية وتشريعات قانونية، بعد دعوة المجلس النيابي إلى الانعقاد بطريقة استثنائية. 

أما بالنسبة إلى التعديلات الدستورية، فقد بات من الضروري تعديل الدستور اللبناني لجهة: 

- التأكيد على "حقّ الشعب اللبناني في مقاومة الاحتلال والدفاع عن مصالحه في البر والبحر بكل الوسائل المتاحة والمشروعة"، وتعديل الفقرة "ح" من مقدمة الدستور، لتصبح: "تُلغى الطائفية السياسية في لبنان، وتُجرى الانتخابات النيابية على أساس وطني". 

- تعديل المادة 19 من الدستور اللبناني، بما يؤمن استقلالية تشكيل المجلس الدستوري وتوسيع صلاحيته، فتكون رقابته على دستورية القوانين تلقائية، سابقة ولاحقة، وبما يتيح لنائب واحد فقط التقدم بأي طعن يراه مفيداً. 

- تعديل شروط الترشح إلى النيابة، بما يكفل أهلية المرشح لأن يكون مُشرعاً، فالتشريع هو علم وفن، وليس منطقياً أن يتألّف مجلس نيابي من دون أكثرية متخصصة في القانون أو الاقتصاد، وكذلك منع الجمع بين الوزارة والنيابة. 

- إلغاء "المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء"، والنص على وجوب محاكمة هؤلاء أمام القضاء العادي. 

أما بالنسبة إلى التعديلات القانونيّة، فينبغي للمجلس النيابي إصدار قانون انتخابي يؤمّن صحة التمثيل النيابي وعدالته على أساس وطني لا طائفي، وإقرار قانون استقلال السلطة القضائية، وتطوير أداء ديوان المحاسبة واستقلاليته.

في الخلاصة، لقد عانى لبنان، ولا يزال، أخطاراً داهمة، داخلية وخارجية، ويعد نظامه السياسي علّة وجوده ومعطل إسقاطه في آن. هو نظام يُجدّد نفسه في كل مرة، وبطريقة أشد طائفية وتعصباً، ويحوّل "كل ثورة للقضاء على الفساد وإصلاح الحكم إلى نهاية فاشلة وأمل ضائع" (من مقال للرئيس الأسبق تقي الدين الصلح، مجلة "الأسبوع العربي"، 17/2/1969). من هنا، كانت ضرورة تطويره، ولكن من دون الذّهاب إلى حرب أهلية، وإلا فلن يبقى للبنان أي مجد كي يُعطى لأحد!