حزب الله بين جيلين: مدار الأزمات والانتصارات!
تقول الرواية إنّ عدداً من مجاهدي حزب الله الشباب، وبعد أن أنهوا استعداداتهم التدريبية قبيل عملية الأسر التي نفّذت في العام 2006، قصدوا زيارة "العارف المتألّه" الشيخ بهجت في منزله في قم المقدسة.
مضى أكثر من 30 عاماً على انطلاقة حزب الله ونشأته الإيديولوجية، وما زال الحزب يعمل ضمن مقاربة التمييز بين الهوامش والتكتيكات التي تتطلبها طبيعة الأعمال الميدانية الواقعية، وتلك المقولات والمبادئ التي تنبع وتصدر عن القيم الإسلامية الثابتة الخالدة؛ مقاربة تحيط بتحركات الروح وحركات الخارج، وكل ما هو واسع وعريض في الحياة السياسية والثقافية والدينية، وتكون إحدى نتائجها أن تثير بعض المسائل تشككاً، وتكون علامة على سوء الفهم.
وفي أي تجربة إنسانية، مهما بلغ نبل الأفكار في تطلعاتها وصدق الرغبات في أفعالها، فهي لا تنجح تماماً في سد النقص الذي تجلبه طبيعة الاحتكاك بالواقع، وكل ما تحاوله هو تجويد أساليبها وتقليص أخطائها وعيوبها!
هذه الحقيقة تعكس خيطاً من الوعي يربط بين جيلين، أحدهما نشأ "قبل الفتح" والآخر بعده، أو يمكن أن نفترض محدِّداً آخر له، يمكن أن نصطلح عليه بـ"ما قبل تحرير العام 2000 وما بعده". جيل كان "يستشكل" في فكّ زر الرقبة، باعتباره سمة من سمات المؤمنين، وآخر يستهوي "موضات الجينز والتي شيرت"، ويسبغ عليها تعديلاته التي لا تظهره خادشاً للحياء ولا مناقضاً للعادات الأخلاقية الواضحة.
تُنقل عبر وسائل التواصل الاجتماعي رواية لم يتمّ التحقّق من صحتها ومصدرها، ولكنها تبرز الاختلاف في التقاليد بين مكان وآخر من جهة، وبين الأمس واليوم من جهة أخرى.
تقول الرواية إنّ عدداً من مجاهدي حزب الله الشباب، وبعد أن أنهوا استعداداتهم التدريبية قبيل عملية الأسر التي نفّذت في العام 2006، قصدوا زيارة "العارف المتألّه" الشيخ بهجت في منزله في قم المقدسة، غير أنّ الإيرانيين المرافقين لهؤلاء الشباب، لاحظوا أنّ هؤلاء المجاهدين يختلفون عن المجاهدين في الحرس الثوري من نواحي المظهر الخارجي والمعاملة وروح المزاح التي يتمتعون بها.
وقد دفع هذا الأمر المرافقين إلى طرح علامات استفهام حول روحانية مجاهدي لبنان، لكن المفاجأة وقعت لحظة استقبال الشيخ بهجت لهم، وتقبيل أجبنهم، ومسح أكتافهم، ما أثار استغراب أحد الضباط الإيرانيين، الذي أراد أن يشكو الشيخ بهجت لما رآه من اللبنانيين، ويعتب عليه لإبدائه الحفاوة بهم.
ردّ الشيخ بهجت عليه: "قد تكون محقاً بأنّ مجاهدي لبنان تختلف طريقة عيشهم عنّا، وقد ترى هذا غريباً عن مبادئنا، إلا أنني لم أستطع تمالك نفسي حين رأيتهم يدخلون والإمام صاحب الزمان (عج) يدخل معهم، وقد كتب على جبين كل واحد منهم علامة النصر الآتي".
هذه الرواية قد لا يفهم أبعادها الدينية إلا من كان قريباً من مفردات الميتافيزيقيا الشيعية، وهي بالمناسبة تشكّل مناخاً خصباً لاتجاهات تعتقد بالفكرة المهدوية وتمظهراتها الخارجية، لكن هذا ليس مقصودنا الآن، وإنّما الإشارة إلى أنّ الجيل الجديد كالقديم، مضى في شوطه الاعتقادي حتى نهايته، لكنّه لا يؤطر نفسه بالأشكال، ولا يحجرها في قالب الزمن الماضي.
قد يحتجّ بعض المخضرمين من الرعيل الأول، ليصف جيل المقاومة الجديد بأنّه بلا جذور ثقافية، فبينما كان الجيل الأول يقرأ ويناقش في مفاهيم الإسلام وقضاياه المعاصرة والتراث وأحواله ونظرة الإنسان إلى الكون والمجتمع، ويتزوّد بمسائل الفقه التي تعينه على أداء العبادات بأحسن صورة، فإنّ هذا الجيل تغلب عليه العصارة التقنية التي لا تولي مسائل الدين والحياة العمق المطلوب، ويستعين باليسير والقليل منها، ولا يقيم وزناً للأفكار، بل يهمه التفاعل مع الأشياء، في حين أنّ المعجزات الكبرى مرتبطة دائماً بالأفكار لا الأشياء، كما يرى مالك بن نبي، فقد كانت تلك الأفكار الإرهاصات التي آذنت بالتغيير الثوري وبالانتصارات التي لاحت للجيل الجديد وأمدّته بالزخم والقوة والمجد.
يمكن أن نشبّه حركة المقاومين الأوائل بحركة إحياء أرضٍ طال جفافها؛ حركة حملت في ثناياها الوعي والحماسة في تعزيز الدين كمنهج تفكير وحياة، وكأسلوب تنظيم جماعي.
ومن هذا المنطلق، أولى هؤلاء الأوائل اهتماماً شديداً ببناء الذات على المستوى المعرفي والسلوكي، وأدركوا باكراً فلسفة الصراعات التي تدور رحاها على أرضهم وفي ساحات المنطقة العربية والإسلامية، مستضيئين بكتابات وكلمات الإمام الخميني والإمام محمد باقر الصدر والإمام السيد موسى الصدر وحركية علماء الدين الطليعيين، كأساس في تكوين رؤية علمية واقعية تاريخية طموحة، فقد انحدرت إليهم نتاجات هؤلاء جميعاً، لتطلق منفسحاً تفكيرياً يتطلع إلى استكشاف خرائط المستقبل ومبانيه ومآلاته، ويستشرف حضور الإسلام في المشهد المحلي والإقليمي والعالميّ.
ومما لا شكّ فيه أيضاً أنّ هذا الجيل كان يبحث عن قيادة تتوفّر على سيل من الأفكار والأدوات القادرة على صنع مسارات جديدة للأمة، فكان الإمام الخميني في إيران، والسيد محمد باقر الصدر في العراق، والسيد موسى الصدر في لبنان، يعبّرون عن جذور الاتجاه الإسلامي الأصيل وجذوته، ويمهّدون لظرف تاريخي ينهض بالمسلمين، ويضعهم أمام مشارف مرحلة جديدة من التحولات والكشوفات والفتوحات في النفس الإنسانية والمجتمع الإنساني.
ومن هنا، ليس غريباً أن نعثر على همزات الوصل الثقافية واتجاهات التفكير والنظر بين هؤلاء الرواد من القادة الثلاثة والمجموعات الأولى التي شكلت إطار المقاومة وتشكيلاتها الجهادية في لبنان.
ومن المعاينة المباشرة، يستطيع المرء أن يكتشف أنّ ثمة عناصر سياسيّة واجتماعية وذوقية كانت تلوّن نظرتهم إلى الواقع، وانعكست بصورة أو بأخرى على أعمالهم وسيرتهم ومسلكهم، وما زالت منطبعة حتى اليوم، وهي التي كوّنت هذه الأرض الصلبة والقاعدة الضخمة من الفكر والإيمان والتجارب العظيمة.
وقد يكون الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أكثر الأوائل موهبة في التعبير عن أصالة هذا الجيل وديناميكيته ووعيه وسعة أفقه الثقافي وتجذّر علاقته الإيمانية، وعلامة على التفاوت النوعي بين إمكانيات الجيل الأول والثاني ومحصّلات تكوينهما.
ومن يستمع إلى خطاباته يلاحظ بقوة انحيازه العاطفي إلى أجواء ومناخات جيله وأدبياته، ففي الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2018، وخلال كلمة في الذكرى الأربعين لتأسيس حوزة الإمام المنتظر في بعلبك، أفاض سماحته في الحديث عن صعوبات المرحلة التأسيسية وشظف العيش والصبر والتعب والعناء والجهد الشخصي، وعن الإبداع والبحث عن الجديد، وربّما كانت صرخة الحرية هي نتاج هذه العذابات، "وإعادة الإسلام ليقود الحياة" هي وليدة الرؤيا "الحلمية" لجيل استطاع في لحظات التخلّف المرعب للمجتمعات الإسلامية والنكسات السياسية والحضارية للأمة، أن يعيد الاعتبار إلى الدين بالمعنى الجوهري الأعمق، ويحدد موقعية الجماعة الجهادية في صناعة التاريخ.
اليوم، يدخل الجيل الأول في جولة مفارقة مع الجيل الجديد؛ انتصار العام 2000، وبعد ذلك العام 2006، ثم موجة "الربيع العربي وثوراته"، مع ما رافق ذلك من تحولاتٍ اجتماعية وتكنولوجية وثقافية، فمرحلة السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019، التي أحدثت تشققات في موازين النقد والاعتراض.
ومعنى ذلك أنّ الفجوة، وليس "الجفوة" التي بدأ الجيلان يتحسّسانها، كانت لها أسبابها الموضوعية الكامنة في التكوين الديني الكلاسيكي للأوائل، والتكوين الحديث للجيل الجديد الذي أخذ ضغثاً من الثقافة الغربية، وضغثاً من علوم العصر، وضغثاً من التراث والالتزام العقائدي، ومزج بينهما في توليفة لم تغيّر من معطيات الإيمان، بل من مقارباته التي لا تفتأ تتوسّع كلما التبست علاقات القيم والمصالح وتداخلت مجريات السياسة اليومية مع الأفكار الكلية.
يمكن القول إنّ جيل ما بعد العام 2000 شكّلته ثلاثة روافد أساسية: الرافد الأول هو أبناء طبقة المقاومين، وتحديداً الفقراء منهم، الذين أمّنت لهم المقاومة ميزة التعليم شبه المجانيّ، فأتاحت لهم دخول الجامعات، والاستفادة من مساراتها التشاركية والتفاعلية، وما توفّره من مناخات ثقافية تطغى عليها النزعة إلى التساؤلات وشهوة البحث الحر في كل مجالات الفكر والفن والأدب.
الرافد الثاني هو أبناء البرجوازية الدينية، الذين عملوا لتثبيت أقدامهم في مراكز النفوذ والقوة داخل مؤسسات الحزب التنظيمية والعسكرية أو خارجها عبر الأعمال التجارية المتنوعة.
والرافد الثالث يتمثل بالذين تسربوا من بيئات يسارية وقومية، فقد حفرت الانتصارات التي حقّقتها المقاومة والأنموذج الثوري الرائد المتعالي عن الحسابات الطائفية عميقاً في شباب يتطلع إلى وطن وأمة خلاقة، لا تستكين للضعف ولا تتساكن مع الخيبات.
هذا الخليط يشير في جانب منه إلى أنّ قيادة الحزب لم تتعصّب للشكل القديم في ضمّ الراغبين إلى أجهزتها المدنية والعسكرية، وإنما فتحت ذراعها للأشكال الأخرى في المجتمع، ولكنّها أصرت من ناحية المضمون على أن تستوعب هذه الأشكال مبادئ الحزب وهُويته وتطلعاته.
استطاعت التجربة الحديثة خلال 20 عاماً أن تصل الى درجة من النضج والأصالة، فتفرّعت عن جذور الشجرة الأولى فروعٌ عديدة. مثلاً، نشأ خط يمثّل المقاومين الأوائل، من خلال محاكاة تجربتهم، وتقليد مسلكهم، واسترجاع أرشيفهم النابض بالحس الثوري، وتعميمه في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال أنشطة وإنتاجات فنية متنوعة، في محاولة لاحتواء الاستلاب الثقافي والهشاشة الروحية التي يحياها قسم أصابته الحياة بالبرودة الإيمانية.
علاقة هذا الخط أشبه ما تكون بالارتباط بالتراث "المجيد". يعايش هذا الخط بفرح المحاولات الأولى لشهداء كان لهم الفضل في صناعة القالب الجهادي لمسيرة حزب الله، ويعتبرهم، أي الشهداء، الجدار الذي يجب الاستناد إليه للوقاية من شر الانحراف.
الخط الثاني يمثّل التوجهات "الاشتراكية"، أولئك الذين أرهصت بهم وقائع الأزمات الاجتماعية والطائفية، وشعروا بضرورة الالتزام بالموضوعات الوثيقة الصلة بحياة الناس، وأنّ الحزب مطالب بالانخراط أكثر بالقضايا الاجتماعية والتمرد على الصيغة الطائفية، لبناء وطن يحلم به أبناؤه، وتسوده العدالة والمساواة .
ومن الواضح أنّ هذا الخط يجعل القضية الاجتماعية أولويّةً على القضايا الأخرى، لكن من دون أن يقوم بفصل متعسف مع البعد الأهم في وظيفة الحزب، وهو المقاومة.
أدبيات أفراد هذا الخط الذين أطلّوا بقوة من بوابة الأحداث الأخيرة والأزمات المعيشية الضاغطة، تلحّ على ضرورة تذويب المسافة بين المقاومة والحياة، ولكن في مكان ما، يقف هؤلاء على النقيض من الخط الأول، لجهة التركيز على احتياجات الإنسان المادية في مقابل تهميش القيم الروحية، على نحو تكون الأصالة للجسد أولاً، وبالذات على الروح ثانياً، وبالعرض !
الخط الثالث يمثّل الصاعدين والطامحين بغدٍ أفضل، هروباً من مرحلة التخلّف الاجتماعي والتهميش السياسي الذي لحق بأبناء الطائفة الشيعية منذ تأسيس الكيان.
أولئك، ونتيجة احتكاكهم بالبيئات والطبقات الاجتماعية والطائفية المرفّهة والنافذة، بفعل التفتح السياسيّ الذي أبدته قيادة الحزب أو بسبب توازنات ومصالح وعلاقات ما بعد الانتصارات التي تأتي محملة في العادة بمزيد من المنافع، نجدهم قد تمردوا على الحياة الأولى أو حياة آبائهم القاسية، وباتوا ميّالين إلى الانصهار في بوتقة الإنسان العصري وأزيائه، والتماهي مع المحتوى الاجتماعي للطبقات التي تعلي من شأن "البرستيج" والوجاهات والعلاقات العامة اللينة والطيبة.
الخط الرابع يمثّل الحركة الحديثة للمقاومة، والتي أرسى دعائمها عماد مغنية، مواكبة للتطورات الكبيرة مع العدو الإسرائيلي بعد حرب تموز/يوليو 2006. لقد نشأ هذا الخط على معايشة حارّة وعميقة للتحدّيات التي أعقبت الحرب، والمهام التي يجب أن يضطلع بها، وأفراده يضعون نصب أعينهم الالتزام التام بأهداف القيادة الممثلة بالأمين العام السيد حسن نصرالله، ويتبنون في صراحة مذهلة أو ما يعرف ضمن أدبيات الحزب بـ"التسليم بالتكليف" بكل أطروحة القيادة فكرياً وسياسياً واجتماعياً، ولديهم الاستعداد لتنفيذ كل ما تطلبه القيادة منهم، سواء كان ذلك في "أقصى اليمين أو أقصى الشمال"، من دون اعتراض ومرواغة وتواكل، لأنهم يؤمنون حتى النخاع بأنّ قائدهم (السيد حسن) هو رسالتهم وسلاحهم وثقتهم ومصيرهم ودنياهم وآخرتهم وحلمهم بالشهادة والنصر.
وقد تم تأهيلهم وتطوير مواهبهم المعرفية والبدنية، ليشكّلوا ذراع الحزب في المحطات التاريخية القادمة. وقد وجد السيد نصرالله سرّه فيهم خلال تجربة الدخول في الحرب السورية ضد الإرهابيين التكفيريين، وكان رهانه عليهم في محله. وقد ترجم عاطفة ظاهرة ومشاعر مختلفة تجاههم، واستعار إحدى الزيارات الواردة بحق أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، المعروفة بـ"الزيارة الجامعة"، ليقول بحقهم: "كيف أصف حسن ثنائكم، وأحصي جميل بلائكم، وبكم أخرجنا الله من الذل، وفرج عنّا غمرات الكروب، وأنقذنا من شفا جرف الهلكات"، في إشارة عميقة إلى ما تشتعل فيه أرواحهم من نبل الولاء وصدق الإيمان.
هذه الخطوط الأربعة شكّلت إلى حدٍّ ما المحتوى الحديث للجيل الجديد. الأصالة لها حظٌّ في التقليد والمحاكاة، وما زالت تنحدر من التاريخ عبر الحضور المتوهج والدافق لكلمات الأمين العام، الذي يرى الجيل الجديد تطويراً في حقيقته لجيل الأوائل، لا ثورة عليه، والحداثة لها درجة بالمنجزات والرؤية والتنوع، من دون تفلّت من البناء الكلاسيكي لهوية المقاومة وقيود توجهاتها، وهي القيود التي تستلزم اعتبار جيل "المهاجرين والأنصار" وحدة واحدة لا تتجزّأ .
مما لا شكّ فيه أنّ الجيل الحديث سيطرت عليه نشوة الانتصارات وأمجادها، ومظاهر القوة وإيحاء العلاقات المستندة إلى المقدرات الوفيرة، وكيان مؤسّسيّ متين يحيطه من كل جانب بالدعم المادي والمعنوي، فيضاعف ذلك أحياناً من غروره وزلّاته، بينما عاش الجيل السابق في واقع صخري مليء بالصعاب والمتاعب النفسية والاجتماعية، والتحديات الوطنية، وهموم العصر، وندرة الموارد، وكثرة الأعداء، وقلة الأصدقاء، لكنه لا يتخطّى ما على أساسه انطلقت مسيرة الحزب.
وما يضعهما معاً في مكان واحد هو الإيمان بمبدأ "ولاية الفقيه"، الذي يجعلهما يقفان على أعمق ما في هذه الأرض، وعلى أعمق ما في هذه العقيدة، وعلى أعمق ما في هذه الأمة من قضايا.
في الحقيقة، لم يكن الجيل الحديث بديلاً من الجيل المؤسّس، ولكن كما في الحديث المشهور عن الإمام علي (ع): "لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"، فلكل زمان رجال. لذلك، بدا هذا الجيل غريباً بعض الشيء، ميّالاً إلى الدعة في تصرفاته، مولعاً بـ"النرجيلة" والموضة، ومهتماً بتطبيقات الميديا والتواصل الاجتماعي.
كما أنّ الأحداث السياسية والتطورات "الرقمية" وصلت أحياناً ببعض هؤلاء إلى ذروة التفرّد والتشتّت، ممّا لا يتيح لهم الاستقرار على رأي موحد في مقاربة قضايا الحزب والداخل اللبناني أو قضايا الخارج بملفاته الشائكة، وهذا ما ينعكس بشكل سلبي على توازن الصورة العامة، وخصوصاً عندما يتم مقارنة ذلك بسلوكيات الجيل السابق، الذي نشأ مسكوناً بالحذر والخوف من العلانية والظهور والتمايز، وعاش هاجس بالروية والترابية والرهافة الأدبية.
ربما يرى البعض أنّ العام 2000 وما بعده يشكل نقطة تحوّل لجيل يبحث عن عوامل التجديد والانطلاق، ويعاند لإثبات نفسه، ولا يريد لهذه المسيرة أن تجمد في قوالبها القديمة، ويسعى ليقدم روايته بنفسه، وبأساليبه الفنية والثقافية والإيمانية، وإن كان من شأن ذلك أن يكشف التناقض بين أدوات الماضين والحاليين.
مهما كان، لا يمكن إخفاء المفارقات بين جيلين خاضا تجارب مريرة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وصولاً إلى التجربة الأقسى في سوريا، ولكن ليس إلى الدرجة التي نتصور فيها الحد القائم بينهما وكأنّه سور حديدي يعمل على تكسيره.
ولا يبدو وصف التحلّل عن تراث المؤسسين سليماً، فما نشهده من فعاليات وإحياءات لمناسبات دينية لم يتوفر الجيل المؤسس على فرص لإبرازها، يظهر العكس تماماً، ولكن لكل جيل منطقه وأدواته ولغته، والمهم أن قنوات التفاعل المرن بقيت مفتوحة بإدارة دقيقة من الأمين العام نفسه، حتى لا يتعطل نمو هذه المسيرة عن روح العصر وعن روح الأصالة الثورية التي منها تفجّرت كل ينابيع الانتصارات.