بثينة عليق: انتظرتك الشاشة طويلاً
تحمل مقابلة بثينة عليق مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله رسائل في الجدّة؛ في كلٍّ من المعنيين الجاد والتجديد. الحوار استدرج الحلقة كاملة إلى مربع المعركة الإعلامية البحتة، بما يثير النزال الدائم على الشاشة بين الادعاء والإتقان. هذا المقال ليس مديحاً للمحاوِرة، لكنه استعانة صريحة وموجِبة بالنموذج الناجح الذي قدّمته.
بتؤدة وخفّة، سارت بثينة بين الألغام ونجت. قدمت حواراً أشبه بخطاب يُدرّس، في الإعلام كما في السياسة. أطلَّت لأول مرة على الشاشة، فأعادت للإعلام رزانته التي كادت تسقط بفعل الإعلاميين الطارئين على عالم التلفاز.
قادمة من عالم الإذاعة، المختلف في المعايير والتفاصيل، ولو جزئياً، خاضت بثينة عليق عالم الحوار التلفزيوني، وكسبت من الجولة الأولى.
وإن كانت أول إطلالة لها، فإن الاسم ليس حديثاً، وبالتأكيد ليس عابراً، ولن يكون بعد حوار ذكرى التحرير. لها في إذاعة "النور" تجربة من عمر التحرير، أكسبت السيدة معرفة وازنة بالحوار السياسي؛ ذاك الذي يُخاض غالباً على الشاشات اللبنانية كمعركة حوارية.
متمكّنة من جميع أدواتها، كحصيلة خبرة عقدين تقريباً، خاضت بثينة عليق حوار الانتصار العشرين مع سماحة الأمين. للإعلامية البارزة نقطة قوة كذلك، فقد نجحت في إبراز شخصية الإعلامي الرصين والمتمكّن، الساعي لإكساب الحوار أقصى درجات المغزى بلا أي تكلُّف.
وليس المحاوَر شخصية سياسية عادية، فمشاركة الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، على طاولة الحوار، تتطلب صحافياً يجيد فنّ التواصل ويبدع فيه، مع السيد، كما مع المشاهد. والأدوات كافة تملكها المحاوِرة المتمكّنة، فتراها تتنقل بهدوء بين المحاور، مصوّبة على الهدف، فتسأل من دون أن تطلق سهماً.
خلت المقابلة من الاستعراض المفرط، بل خلت من بهجة الاستعراض عينها؛ الأداة الوحيدة للانتصار على الشاشات المحلية، والغالبة على برامجها الحوارية وفيها، لكن بثينة عليق رسمت قواعد جديدة، مغيّبة عن عمد ربما أو عن تقصير وقلة حيلة، يتحايل المحاور في إخفائها باللجوء إلى لعبة الإبهار. هي حاورت وقاومت، إذ حاربت اعوجاج الصورة، وخرقت ما بات عُرفاً على الشاشة.
ليس ثمة ما يلفت في مقابلة الأمين العام سوى المضمون، ما يفرض رصانة المحاوِرة أمام ثقل الشخصية المحاوَرة في المقابل. بالتأكيد، تعرف بثينة ما تريده، وهي على دراية بما ينتظره المشاهد، وعلى الضفتين طبعاً. وكذا رتبت الإعلامية معركتها بهدوء، ومن دون إرباك، لها ولنا، وللمشاهد أيضاً.
هي إعلامية المقاومة. هذا ما يقوله تاريخها في إذاعة "النور". هي الصوت الصباحي العذب الذي يلاقيك بحوار لا لبس فيه، لكن اللافت كيف خاضت سيدة الإذاعة تجربة التلفاز وانتصرت بجدارة، فالتحدي لم يكن سهلاً، كما أن الاسم لم يعد سهلاً هو الآخر.
في الجانب الإعلامي كذلك، يحيل حوار ليل الثلاثاء مع الأمين العام لحزب الله إلى رؤية جادة لعالم التلفاز، بما يفرض تحديات لتغيير ما يشوبه من تعديات ما عادت النجاة منها مسألة يسيرة، فهي لا تقاطع بندِّيَّة، ولا تقفز بين الإجابات. هي المستمعة الهادئة، المنتظِرة للرسالة، والمتلقِّفة نقطة الانطلاق للتالي في الحوار.
النقاش الهادئ يصل إلى المشاهد نقاشاً مُريحاً خالياً من جولات الملاكمة الحوارية التي يسهل التخلي عنها، ويُفضَّل، لكنّ الإعلامي يهوى التمسك بها، كمن يهوى النجومية من حلقة واحدة، ولم تكن هذه الحالة هنا.
تواضعها أمام الهامة الجالسة مقابلها كان لافتاً كذلك، وهدوؤها أيضاً. تقدم بثينة حواراً نموذجياً في الأداء كما في المضمون، فهي ليست بثينة على وجه خاص، بل هي المحاورة عموماً. وعلى هذا الأساس، يطرح الإعلامي الممتاز أسئلته، فيتميّز أكثر.
تنجح بثينة في رسم حدود جديدة بين الإعلامي المحاور، المثقف والناجح، والمذيع النجم، الهاوي والمدعي. معادلة أو تفريق لا بد منه، ينتظره عالم التلفاز منذ زمن أمام سطوة النجوم وهواة البروز على حساب عمق المادة المقدمة للجمهور.
بالتأكيد، إن المادة الإعلامية التي قدّمتها الأستاذة المحاورة تعتبر بمثابة نقطة ماء تحفر في الصّخر، فهي تترك علامة لا هروب منها، وحقيقة لا بد من الاعتراف بها، بين من يجيد الحوار ومن يصطنعه، بين من هو في صلب المهنة ومن يتعدى عليها.
فريدةً، تعبّد بثينة الطريق الجديد للامتياز على الشاشة، في الشكل كما في الجوهر، فهي تحسم الجدل في أول ظهور لها، وتُغلِّب كفّ الإتقان والمباشرة على فن المراوغة والادعاء، وكأنها ترسم قواعد اشتباك جديدة بين الإعلام والإعلامي، مغلِّبة حقيقة ما يقدَّم وما يلمسه المشاهد في عقله ووجدانه على ما اعتاد أن يناله في الحوار من قبل.
بالتأكيد، تفتح بثينة، وبجرأة تامة، هذه الجبهة الآن، وتنجح في إيجاد مساحة خاصة ومستحدثة للإعلامي الحقيقي الذي يحوز اللقب من دون أن يبحث عنه، ويعتمده وسيلة لا غاية، وفي هذا عودة إلى الأصل.
حوار الانتصار العشرين يكرس اسم بثينة عليق إعلامية مقاومة للمرة الثانية، أي بمعيار جديد على مقياس المحاور التلفزيوني الناجح. هي تفرض معادلة جديدة في الإعلام، فتكسر، للمرة الأولى، المفاضلة بين الإذاعة والتلفاز، وتثبت أنّ ما تكتنزه شخصية الإعلامي من مقومات على المستوى الشخصي في الدرجة الأولى، تحسم موقعه في هذا العالم الشائك والصعب.
انتظرت الشاشة طويلاً أنموذج الإعلامية الرصينة التي تبهرك بالأداء، مُغيِّرة قواعد اللعبة الإعلامية. التكلف ليس أداة انتصار، بل الجدة.