من ينقذ الصّحافة من التفاهة؟
انهار سؤال المضمون في الإعلام، وانهار مفهوم "الجمهور يريد هذا"، وظهر مع مواقع التواصل الاجتماعي جيلٌ جديد من المؤثّرين، ينشرون الضّحالة والتفاهة.
وفقاً للإعلان المسمّى "ويندهوك" في الجمعية العامة للأمم المتحدة، نالت مهنة الصحافة شرف حيازة يومٍ عالمي خاص بها تحت شعار "اليوم العالمي لحرية الصحافة"، والذي يصادف تاريخ 3 أيار/مايو من كل عام. كان ذلك في كانون الأول/ديسمبر 1993م، بناءً على توصية من المؤتمر العام للأونيسكو، واستمر الاحتفال السنوي بهذا اليوم لغاية الآن.
مهنة الصحافة التي تعتمد قبل جمع المستجدات وآخر الأخبار في جميع المجالات على الصدق والموضوعية اللذين يشكّلان الأساس في أخلاقيات هذه المهنة، لا يكون فيها الصحافي الذي يكذب أو يروّج الشائعات إعلامياً ناجحاً، بل إنه يشكّل عبئاً إضافياً على مهنةٍ نبيلة وشاقة، لولاها لما عرفنا أخبار الآخرين وشاركناهم انشغالاتهم وهمومهم، ولكن شاءت التكنولوجيا في عصرنا أن تترك أثرها، فأصبحنا نرى صحافةً غير التي عرفناها منذ عهد بعيد وصولاً إلى زمن قريب.
فما الذي تعنيه الصحافة اليوم؟
يجيب على هذا السؤال المغربي عادل الزبيري في مقال له بعنوان: "هل انتصرت التفاهة على الصحافة"، فيكتب: "لصحافة اليوم هي أنْ يحمل مصوّرٌ تلفزيوني كاميرا وعصا. يجوب شارع محمد الخامس في العاصمة المغربية الرباط. يحمل لوغو على ميكروفون. يسأل الناس عن كلّ شيء وعن لا شيء. يبحث عن كلّ شيء أو أيّ شيء يمكن أن يصنع له BUZz أو البووز، أي يخلق الفرجة الشعبية الجماهيرية".
ونحن نؤيّد ما قاله ونؤكد أنّ الصحافة التي يراها في شارع محمد الخامس في الرباط هي نفسها الصحافة التي نراها في شارع حسيبة في الجزائر العاصمة، وكذلك الأمر في كل دول العالم، فما الذي يحدث؟
انهار سؤال المضمون في الإعلام، وانهار مفهوم "الجمهور يريد هذا"، وظهر مع مواقع التواصل الاجتماعي جيلٌ جديد من المؤثّرين، كما يسمّون، ينشرون الضّحالة والتفاهة، ويروّجون للسّطحي، ويهلّلون للفارغ الأجوف. هؤلاء هم "الكهربائيون"، كما يصطلح عليهم عادل زبيري.
ولكن اعتبارات الانهيار والضحالة لم تتوقَّف على الصحافة فقط في عصرنا، وإنما امتدّت لتشمل نوعية القرّاء والمتابعين، الذين لولاهم لما أصبحنا نعايش أبواقاً تلبس الجديد من الثياب وتطلق على أنفسها لقب "صحافيين"؛ هؤلاء الذين يسميهم الشاعر الإسباني بيدرو ساليناس (pedro Salinas) الأميّين الجدد، واصفاً إياهم في مقالٍ شهير بأنهم يحومون حول أكشاك بيع الصحف كنحلات طنانة تحوم حول زهرةٍ نضرة، بحثاً عن المقادير التي ستصنع بها عسل حياتها الفكرية.
إنهم لا يقرأون الكتب، ولكنهم مفتونون بتكاثر المجلّات ومواضيع أغلفتها. هؤلاء أهل للشفقة، لأنهم، بعيداً من إعفاء أنفسهم من مشقة العناء كقرّاء، في غاية السخاء والكرم حين يتعلق الأمر بها. يقرأون الأعمال الضعيفة بشراهة. يعودون إلى منازلهم محمّلين بالمجلات التي يحرثون فيها بعيونهم لساعات، من دون أنْ يحصلوا في النهاية على أكثر مما يحصل عليه طفل يلهو بأحجية بانورامية لا يبدو أنها ستنتهي، عاجزين عن رؤية الصورة الكبرى التي يظهر فيها كل شيء في مكانه الصحيح...
هذه المجموعة تنمو ببطء، وهي على درجة كبيرة من التأثير، والخطورة تتجاوز كثيراً الأمّيين أميّةً بحتة، فهم يرفضون البقاء في الدّرك الأسفل مع الشيطان في ظلمات الجهل، إلا أنهم لا يطمحون للوصول إلى ضوء المعرفة المقدّس، إنهم قادرون على كل شيء... ولا يجازفون بشيء.
هكذا أثّرت التكنولوجيا المعاصرة في مفهوم الصحافة، وكذلك فعلت نوعية القرّاء، حتى أصبحنا نعيش زمن صحافة ما يطلق عليه الأستاذ آلان بودو لقب "التابلويد" (Tabloid)، وهو النمط الصحافي الذي يهتم بموضوعات الفضائح والترفيه وقصص الاهتمام الإنساني وأخبار المشاهير، إدراكاً من وسائل الإعلام للعوائد التجارية التي تجنيها من إشباع شهية "الأمّيين الجدد".
أصبحت وسائل الإعلام توظّف أشخاصاً، لا لعلمهم الغزير، بل يكفي أن يكون (أو تكون) ذا شكل جذّاب وقوامٍ لافت، وأصبحت الصحافة التي نحتفل بيومها العالمي كلّ سنة صناعةً يحرّكها هاجس المصلحة والتسويق دائماً، فمن ينقذ الصحافة؟! ومن ينقذ وسائل الإعلام منْ تفاهةٍ جعلت الصحافي الذي يحوز بطاقة صحافية يتساوى مع هاوٍ يستيقظ صباحاً ليصور بشاشة هاتفه الذكي كلّ ما يراه أمامه، من دون الأخذ بعين الاعتبار أدنى شروط هذه المهنة النبيلة، حتى صارت مهنة المتاعب لا تحتوي أيّ متاعب، وإنما بكبسة زرّ واختيار موضوعٍ تافه يمكنك أن تصل إلى العالمية، وتنافس كبار الإعلاميين والصحافيين الذين جهدوا كثيراً في صقل أنفسهم وإكسابها معارف عريضة، قبل أنْ يصرّحوا بأنهم "صحافيون"! من سينقذ الصحافة!؟