مرة أخرى.. ضرورة وجود الحشد الشعبي في العراق
مرة أخرى، أثبت الحشد الشعبي أن وجوده ضرورة لحماية العراق، وفي الوقت نفسه، أضاف إلى سجلّه مكاسب سياسية جديدة، رغم الضغوط السياسية الخارجية والداخلية لحلّه.
تحوّلت قوات الحشد الشعبي في العراق إلى قوّةٍ إقليميةٍ تؤرِّق صُنّاع السياسة الأميركية في العراق والشرق الأوسط. وبين اتهامها بالتبعية لإيران، ووضع بعض فصائلها على قائمة الإرهاب، وأخيراً استهداف أبرز قادتها، تظهر من جديد قوات الحشد الشعبي كقوَّةٍ لا يمكن للعراق التخلّي عنها، بعدما قدَّمت، وما تزال، الكثير.
مع انتشار جائِحة كورونا في العراق، كما حصل مع بقيّة بلدان العالم، اتَخذت السلطات العراقية مجموعة قرارات، وسعت إلى تنفيذها بجدية، مثل فَرْض حَظْر التجوال وحَظْر التجمّعات الكبيرة وتقييد الرحلات، إلا أن فكرة التباعُد الاجتماعي التي حاولت الحكومة العراقية فَرْضَها في المناطق الحَضَرية ذات الكثافة السكانية العالية، لم تحقِّق أهدافها، رغم مُساعدة الشرطة العراقية والجيش. ولم تتمكَّن وزارة الصحّة من إجراء الفحوصات أو توفير الرعاية الكافية لمَن هم بحاجةٍ إليها.
وفي هذه المِحْنَة، تدخّلت قوات الحشد الشعبي لمؤازَرة الحكومة العراقية في مُكافحة الفيروس. في الحقيقة، خلقت الجائِحة فرصة جديدة للحشد الشعبي لإثبات فعّاليته في الساحة العراقية. ظهرت أولى الإصابات في العراق نهاية شهر شباط/فبراير الفائت. ومع بداية شهر آذار/مارس، أعلنت هيئة الحشد الشعبي عن عدَّة حملات تطوّعية في جميع أنحاء البلاد لمواجهة الجائِحة.
أولى تلك الحملات كانت توعية الجماهير بمخاطر الوباء، وتقديم النصائح المهمة حول كيفيّة التعامُل معه. والجدير بالذِكر، أن الحشد الشعبي يتمتَّع بالمِصداقية بين مُعظَم السكان، لما قدَّمه من تضحياتٍ كبيرةٍ - وما زال - في مواجهة تنظيم داعش والانتصار عليه. هذه المِصداقية، وهنا نتحدَّث عن الفصائل العسكرية غير السياسية، غير موجودة لدى بقيّة الأطراف العراقية السياسية أو غيرها، باستثناء مؤسّسة المرجعية الدينية في مدينة النَجَف.
تحرَّكت مجموعات من الحشد الشعبي بين السكان ضمن فِرَق الدعم اللوجستية والطبية في عملية تطوّعية لدَعم السُلطات في بغداد والمُحافظات، وقامت فِرَقها ببعض الأنشطة الأساسية، مثل توزيع المواد الغذائية على العوائِل والأفراد المعزولين، وتعقيم الأماكن العامة والشوارع والمباني السكنية، وخصوصاً في المناطق التي شَهِدَت إصابات، ونقل المواد الطبية والصحّية الضرورية، وحملات التبرّع بالدم بين أفراد قوات الحشد.
ولعلّ أهم نشاط كان في تبنّي الحشد الشعبي نقل جُثث المُتوفّين بسبب الجائِحة، والتكفّل بالدفن بحسب الشريعة الإسلامية. وكانت هذه مسألة مهمة للغاية، لتخوّف العاملين في القطاع الصحّي وعاملي شركات الدفن منها.
وانطلقت فِرَق أخرى من الحشد الشعبي باسم حملة "جنود الرَحْمة" لتقديم الدعم النفسي واللوجستي للعاملين في القطاع الطبي. ومن جانبٍ آخر، ساهم الحشد في بناء مُستشفيات مؤقّتة ومُتَنقّلة في وسط العراق وجنوبه، في كربلاء وبابل والناصرية والسماوة، أطلقت عليها اسم "المهندس"، بالاستفادة من تجارب إنشاء المُستشفيات الميدانية العسكرية خلال الحرب مع تنظيم داعش.
تقوم قوات الحشد الشعبي بعدَّة خدمات عامة ليست من واجبها الدستوري، ولكن شأنها شأن القوات العسكرية والجماعات التطوّعية المُجتمعيّة حالياً في جميع أنحاء العالم، لا شكَّ في أنها قوَّضت مِصداقية مؤسَّسات الدولة الأخرى العسكرية والمدنية المُفتَرَض بها أن تقوم بهذه الأدوار، والتي هي سلفاً تحت طائلة النَقْد العام.
ولعلّ الجائِحة هي أكبر تهديد للعراق بعد تهديد تنظيم داعش. ومرة أخرى، أثبت الحشد الشعبي أن وجوده ضرورة لحماية العراق، وفي الوقت نفسه، أضاف إلى سجلّه مكاسب سياسية جديدة، رغم الضغوط السياسية الخارجية والداخلية لحلّه بحجّة انتفاء سبب وجوده.
إن فشل القيادات السياسية في العراق وسوء إدارتها هو السبب الرئيس في انتشار الفساد واستمرار الإرهاب. وفشل الدولة على مستوى تقديم الخدمات، مُتمثّلة بالفساد الإداري والمالي، وضع المواطن في دوَّامة اليأس. وفي حالة الجائِحة التي تنتشر اليوم، من المُخيف ألا تقوم مؤسَّسات الدولة بواجباتها المطلوبة، وأن تترك فراغاً هائلاً.
ويتحفّظ القادة العراقيون على وصف العراق بالدولة الفاشِلة، غير أن الدولة الفاشِلة هي التي تفشل في تنفيذ مهامها الأمنية ووظيفتها التنموية. وفي الشقّ الأول، نجحت هيئة الحشد الشعبي في تحقيق الوظيفة الأمنية، وملأت الفراغ الذي خلَّفه انهيار الجيش العراقي في العام 2014.
واليوم، تسعى هيئة الحشد عبر فصائلها المختلفة إلى ملء الفراغ الحاصِل من تخلّف بعض مؤسَّسات الدولة في القيام بواجباتها لمواجهة الجائِحة.
وما دامت مؤسَّسات الدولة العراقية تحت نَيْر المُحاصَصة السياسية والفساد الإداري والمالي وسوء الإدارة والمحسوبية والمُحاباة، تبقى الدولة مُتخلّفة في تحقيق وظائفها الأساسية في بَسْط الأمن والتنمية الاقتصادية والبشرية.
وحتى يستعيد العراق عافيته، ويتخلَّص من آفة المُحاصَصة السياسية، وما تبعها من فساد ينخر مؤسَّسات الدولة، ليس أمام الشعب العراقي إلا الاستعانة بالحشد الشعبي في كل ما هو تهديد جديد للشعب والدولة العراقية.
هناك اعتقاد سائِد في العراق بأن الولايات المتحدة التي صنعت النظام السياسي بعد الاحتلال في العام 2003، لم تكن جادّة في بناء نظام عراقي قوي يُكافِح الفساد. وإذا كانت الولايات المتحدة تُمارِس الضغوط على الحكومات العراقية لحلّ هيئة الحشد الشعبي، فإن عليها أولاً إثبات حُسن النيّة في شدّ عَضد الدولة العراقية في مُكافحة الفساد، بدلاً من استهداف المؤسَّسة الوحيدة القادِرة على حماية العراقيين، حيث كان بإمكان الولايات المتحدة إرسال 3 آلاف مولّد كهربائي عملاق لحلّ مشكلة الطاقة الكهربائية، بعدما احتلّت العراق بثلاثة آلاف دبابة.