حلب.. للذاكِرة مدنٌ عصيّة

طيلة سنوات الحرب، خبر أهالي حلب معنى كلمة طريق كما لم يختبره أحد، وكان أكبر أسئلتهم على مدى عُمر الحرب.

  • حلب.. للذاكِرة مدنٌ عصيّة
    لا يمكنك أن تتخيَّل مدى قيمة الأشياء في حلب

ليلة الأحد، الخامس عشر من شباط/فبراير، كانت المُدن تتبسَّم جميعاً في ثغرٍ واحد؛ ثغر المدينة النابِتة من فوق رُكامها كزهرةٍ بريةٍ تضحك للشمس الطالِعة أخيراً، وكل طرفٍ من أطرافها يُضمِّد جراحَه بنفسه.

حلب التي لم تُشيِّب الحرب شَعرَها الغجري، بدت تلك الليلة كأنها لم تنَمْ منذ 9 سنوات، بل كأنها لم تستفِقْ يوماً على ألم الجِراح. ظلّت تؤجِّل إغفاءتها في انتظار أن تطلع الشمس وتتبدَّد الكوابيس. وهكذا حَدَث.

ظلَّ وجهها كما هو، كما عرفته دائماً، كوجه أمّك لا تغيِّره السنين، ولا ينال منه تعب. تفتح ذراعيها لك لتضمّك، ما اسمك؟ لا، لا تذكره! ترتيبك بين إخوتك؟ لا يهمّ أبداً، فالحبّ لديها كلّما اقتُسِم نما، ككرم أشجار الزيتون. كلَّما عُتّق ازداد سحراً وفِتنةً كقلعتها. كلَّما صمت نطقَ، كأحجار مدينتها القديمة، كلّ مَن زارها شعراً وقصائد. وكلّما كتم باح بالنغم والطرب كالقدود، وأدَّى رقصة حلب الأزليَّة في الأفراح والمآتِم.

 للمدينة سحرها الذي لم يُفقَد ليُستَعاد. الحرب لم تأتِ على تفاصيلها. تظلّ حلب المدينة المُتفرِّدة، بلهجتها المحلية، بمطبخها، بذائِقة أهلها العالية، وبموسيقاها وطربها، حتى كأننا لا نجد بيتاً فيها لا يُغنّي، ولا يحفظ الموشَّحات والقدود، أو لا يقتني العود.

 تحاول حلب التمرّد على ذاكِرة السنوات التسع الماضية. في هذه المدينة، حَدَثَ كل ما لا يُمكن احتماله؛ حِصار، وموت، وجوع، وعطش، وخوف، وتناحُر، وانقسام، وقذائف، وأشلاء، وتشوّهات، وألم، وبُكاء، ودمار مديد، وطبقات سميكة جداً من الدمار راكمتها الحرب على مدى سنوات.

ظنَّ الحلبيون أنها بدَّلت وجهها إلى الأبد، لكن المدينة التي احترقت ظلَّ فيها مُتَّسع للفرح والحياة. في إطار أحاديثهم، يذكر الحلبيون اليوم الحرب على أنها ماضٍ. يحاولون استرداد حياتهم السابقة قبل أن تقتحمها الحرب. يحفرون في البال الصوَر والقصص عن المدينة وتاريخها.

لا يمكنك أن تتخيَّل مدى قيمة الأشياء في حلب، كأن تقول: "هل تذكُر طقوس "المشوار" المُعتاد إلى سراقب"؟ حينها، يبدأ الجميع في سَرْدِ قصصهم عن "الهيطليّة" في سراقب صيفاً عند "أبو أيمن"، عن محطّة "زيدو" التي كان الحلبيون يحملون منها زادَهُم قُبيل كلّ سَفرة إلى أيّة مدينةٍ أخرى في سوريا، عن مطعم "الأهرام" وعالم السحر ومدينة النخيل. تتراءى الصوَر كأنها عالم من السحر أصبح كلّه طَلَلاً.

 كنهايةٍ سعيدةٍ لحكايةٍ طويلة، لم يُصدِّق الحلبيون السرعة التي أُنجِزَ فيها التحرير الثاني للمدينة. في ليلةٍ واحدة، وصل الجيش إلى مدخل حلب. فتح طريق الشام، وداوى الخاصِرة الغربية التي ظلّت تؤلِم المدينة منذ أيام التحرير الأول.

لم تكن المدينة أقلّ سُرعة في استرداد هُويِّتها، فطريق "المحلق" قرب جمعية "الزهراء"، والذي كان يَعجُّ قبل أيامٍ قليلةٍ براجمات الصواريخ ومدافِع الهاون والدّشَم والسواتِر، تحوَّل بسرعةٍ مُذهلةٍ من ساحة حربٍ إلى ساحةٍ للتنزّه. تقاطَر إليه الحلبيون في مشهدٍ غريب. عشرات السيارات المدنية على جانبيّ الطريق، روائِح شواء، صَخْب، وأطفال يلعبون. 

لولا بعض المتاريس ومنظر الدمار الهائِل في عُمق المشهد، لاعتقدتَ أنَّ آلة زمن انتقلت بك 9 سنوات إلى الخَلْف، وتوقّفَت بك هناك. داخل الأحياء لا يختلف المشهد. يُعيد الناس اكتشاف مدينتهم بعد أن انتهى عصر القذائف. يختبرون شعوراً بالأمان غاب طويلاً. يسيرون في الشوارع دونما خوف ممَّا قد يسقط فوق رؤوسهم نهاراً من السماء أو يقتحم نوافذهم ليلاً وهم نِيام.

كذلك الريف الشمالي الذي عاد فجأة شديد القُرب من المدينة. تكفي 15 دقيقة فقط لتقطع المسافة من حلب إلى نبّل؛ منطقة "الكارفور" أو "الشهبا مول"، أحد أكبر مُجمَّعات مدينة حلب التجارية وأجملها، وكان في ما مضى أحد المرافِق التي تَفْخَر بها المدينة بعد قلعتها وأحيائها القديمة. أيضاً المطار الذي عاد إلى العمل، وكلّ الدروب التي باتت سِكَكاً مفتوحة نحو قلب حلب. كل الدروب التي قطعتها الحرب. وحدها دروب الحبّ ظلّت توصِل إليها.

 طيلة سنوات الحرب، خبر أهالي حلب معنى كلمة طريق كما لم يختبره أحد، وكان أكبر أسئلتهم على مدى عُمر الحرب، فعندما حوصِرَت حلب، وانقطعت كل الإمدادات إليها، انقطعت كذلك الكهرباء والماء والوقود، وعرف الحلبيون معنى طريق الإمداد.

ولما انقسمت المدينة على نفسها، واحتفظت بين شطريها الغربي والشرقي بممرَّاتِ عبورٍ صغيرةٍ، عرفت حلب معنى أن تكون لك طريق واحد، إما للهرب من الموت وإما التمزّق فيه. ولما شقَّ طريق "خناصر" وسط الأخطار والتهديد والموت اليومي، عرف الحلبيون معنى أمان السفر والطريق.

 ورغم امتنانهم لطريق "خناصر"، فإنَّ سكَّة حلب ظلَّت مقطوعة في وجدان أهلها، إلى أن افتُتِح طريق الشام من جديد. وقتها، عادت الشهباء وجهة كلّ الدروب. وحدها الوجوه الغائِبة هي ما يؤلِم في حلب اليوم؛ وجوه الذين رَحلوا. إذا سألت أيّ حلبي عنها سيقول: "ما عاد في حدا هون، اللي استشهد واللي سافَر، ما بقي حدا". 

هكذا تُنسى الحرب في حلب كأنّها لم تكن. يستردّ الحلبيون أخيراً أندلسهم؛ المدينة التي أحبّوها كفنجانِ قهوةٍ صباحي، كسربِ حمامٍ يطير ويحطّ منذ مئات السنين في باحة مسجدها الأموي الكبير، كنَقْشٍ فينيقيّ قديم في باب "قنسّرين" أو باب "أنطاكية"، كسورِها الأثريّ الذي يُطلّ على طريق الحرير من أول مدائنه.

هي مدينة خارِجة من عُمْقِ الزَمن، مُجدوَلة بالأصالة، اختصرت الكون كلّه ببيتِ شعرٍ من شطرين؛ أولهما منقوش على أدراج القلعة، والآخر عند سورها القديم. هنا سجالات الحمداني والمُتنبّي تُبقي حلب البيضاء قافية كلّ الشعر وأعذب بُحوره.