الولايات العربيّة الأميركيّة.. ليس من باب المزاح

تجتمع كلّ المعاني في "الولايات العربية الأميركية". نحن لم نُبدعها هنا، بل قمنا فقط بإيصالها إلى مستوى الوعي، من خلال ملاحظة استعمالاتها الكثيفة في الأدبيات السياسية لدول الخليج.

  • الولايات العربيّة الأميركيّة.. ليس من باب المزاح
    الولايات العربيّة الأميركيّة.. ليس من باب المزاح

إذا كان المرء يعدُّ "إسرائيل" ولايةً أميركيةً في الشرق الأوسط، خارج الحدود الجغرافية للولايات المتحدة الأميركية، فإنَّ الأخيرة نجحت من دون عناء في تأسيس ولاية جديدة في الشرق الأوسط. إنَّها "الولاية العربيّة الأميركيّة"، المؤلّفة من معظم دول الخليج، والتي تعدّ إحدى أغنى الولايات الأميركية أو هي مجتمعة أغناها على الإطلاق.

ليس في التّسمية تعسّف أو إسقاط لرغبات شخصية على حالة تكاد تكون اليوم أشدّ وضوحاً ومباشرةً من الماضي القريب، فقد اجتمعت كلّ المعاني اللغوية والاصطلاحية لمصطلح "الولاية" في وصف الممارسات المكشوفة لدول الخليج العربي تجاه أميركا.

وإذا كانت الكلمة تدلّ على "القرب والدنوّ"، فإنَّ هذه الدول تعدّ نفسها قريبةً إلى أميركا أكثر من قربها إلى الله وباقي الدول العربية "الشقيقة". وإذا استعملنا الكلمة بفتح الواو (الوَلاية)، فإنَّنا لا نجد موقفاً عبَّرت عنه أميركا في السنين الأخيرة ولم يحظَ بنصرة الدول العربية الخليجية. وإذا كسرنا الواو (الوِلاية)، فإننا لا نُفاجأ إن لاحظنا أن الكلمة تُطابق أيضاً أفعال أميركا حيال هذه الدول، من بسط سلطانها عليها وإِمارَتِها. 

من هنا، إنَّ معنى "المَوْلىَ" جليّ في العلاقة التي تجمع هذه الدّول الخليجيّة بأميركا، لأنَّ الأخيرة هي مولى نعمتها لـ"ضمان" سلطتها ومُعتِقتها وصاحبتها وحليفتها وشريكتها... إذاً، تجتمع كلّ هذه المعاني في "الولايات العربية الأميركية". ونحن لم نُبدعها هنا، بل قمنا فقط بإيصالها إلى مستوى الوعي، من خلال ملاحظة استعمالاتها الكثيفة في الأدبيات السياسية لدول الخليج، عندما تحاول أن تصف علاقتها "المميّزة" بأميركا.

يعزّزُ ما تقدَّم قولُه النبشُ في معنى "الولاية" اصطلاحاً، بحيث إنّها تعبّر عن تنفيذ القول والفعل بحقّ الغير، سواء أراد ذلك أو رفضه. وخير مثال على ذلك، أنّ أميركا فرضت على "الولايات العربية الأميركية" صفقة القرن مؤخراً، وأرسلت بعض العرب إلى صالونات مؤسَّسات عربية للدفاع عنها و"شرح مميزاتها" للعرب الآخرين في مؤتمرات الضحك على الذقون، وكأنَّ الشّعوب العربيّة لا زالت تثق بمن يحكمها/يستبدّها، ولم تفهم بعد أنَّ هؤلاء الحكام ما هم إلا "وُلات" لأسيادهم في واشنطن، بمعنى السّاهرين على تطبيق قراراتهم وأوامرهم ونواهيهم.

الفرق بين "الولاية العربية الأميركية" والولايات الأميركية الأخرى، بما فيها "إسرائيل"، أنَّ "الولاية العربية الأميركية" لا تتمتَّع بالحقوق التي تمتلكها الولايات الأميركية الأخرى. لا يعود ذلك إلى أنَّها لا تتواجد في الرقعة الجغرافية المسماة أميركا، بل لأنها لا تتمتع بأي سلطة أو سلطان على القرارات التي تتخذها الإدارة الأميركية المركزية في غيابها، وهي قرارات لا تصبّ في الغالب في مصلحة الشعوب العربية. 

إضافةً إلى كلِّ ذلك، لا تستفيد الشعوب العربية من عائدات الضرائب الأميركية، بل يُفرض عليها الدفع من دون حساب أو مُحاسبة، في ظلّ غياب أي خدمة في المقابل. من هنا، تصبح ممارسة الولاية ابتزازاً علنياً، وتصبح الولاية ذاتها تسلطاً وقهراً يقود إلى الإحباط النفسي الدائم، لأنَّ الطرف الآخر لا يستطيع المقاومة العلنية الفعليّة أو الشكوى. 

وبميكانيزمات معقّدة، يتحوَّل هذا الإحباط إلى وسيلة "طحن" للشّعوب العربيّة "المغلوب على أمرها"، أي تلك التي تتلذَّذ بدورها كضحّية لحكامها وولي أمرهم على حدّ سواء. وهناك شعوب، أو جزء من هذه الشعوب على الأقل، ممن يتقمَّص شخصية حاكمه المهزوم ويُدافع عن قرارات وَلِيِّه، كما حدث أكثر من مرة خلال السنوات الأخيرة، بممارسة التطبيع مع "إسرائيل"، ودفع الأموال لتمويل الحروب الإرهابية لأميركا على ساكنة الشرق الأوسط العربي.

إنَّ "الولايات العربية الأميركية" تُسَخِّر كلّ ما لديها من خيرات ووسائل بشريّة لخدمة واليها، الذي يتلقّى كل شيء من دون شكر أو ردٍّ للجميل، بل يبلع كغول قصصنا الشعبيّة، صائحاً بأعلى صوته، طالباً المزيد.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل دول الخليج العربية مضطرة إلى قبول هذه العلاقة غير المتوازنة وغير العادلة؟ ماذا ستخسر لو كسرت عصا الطاعة، وأشعلت فتيل وعيها، وعادت لخدمة الله وشعوبها، واستثمرت ما منحه الله إياه من خيرات طبيعية وبشرية لبناء نموذج تنموي عربي تستفيد منه كل الأمة العربية؟

هل تخدم هذه الدول، كما تعلن في إيديولوجياتها، قضايا المسلمين والإسلام أو أنّها تتخذها مطية لقضاء مصالح شخصيّة لحكامها؟ هل يمكن الاستمرار في هذا الوضع المُذلِّ للحكام الخليجيين أنفسهم، ولشعوبهم، وتاريخ أمتهم الماضي والحاضر والآتي؟ هل السلطة المؤسّسة على الحماية الأميركيّة دائمة أم أنها قابلة للزوال في أي وقت؟

إذا قيَّمنا الوضع وفق ما يدور حالياً في المنطقة، فإننا نتكهَّن أنَّ "الولايات العربية الأميركية" ستسقط عاجلاً أم آجلاً على أكبر تقدير، عندما تمتصّ المكررات آخر قطرة من بترول الشرق الأوسط، كما تمتصّ دماء أبنائه.

ووفقاً لتكهّنات المتخصّصين، فإنَّ منابع النفط العربيّة - حتى لو لم تعد أميركا بحاجة إليها - ستجفّ بعد 50 عاماً، ليجد المرء نفسه في صحراء حقيقية، نظراً إلى الكوارث الإيكولوجيّة التي تسبَّب بها استخراج النفط من جوف الأرض، وقِصَر نظر المستبدين العرب عن التفكير في البديل الحقيقيّ لما بعد مرحلة النفط.

وإذا كنّا نرى بأمِّ أعيينا أنَّ الغرب عامة، والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص، تدكّ الشرق الأوسط دكاً بمختلف الحروب التي تشعلها فيه، فإنّ كلّ المؤشرات توحي بأنَّ المنطقة ستصبح غير قابلة للسكن بعد حقبة النفط، لأن المرء رمى بالنهضة العربية قروناً طويلة إلى الوراء. 

وفي ضوء هذه التكهّنات، وإن كان الوقت ضيّقاً جداً أمام الشّعوب العربيّة، ولكنَّه كافٍ لإعلان كسر عصا الطاعة على المستبدين بها وأولياء أمرهم، والمشاركة في قلب الطاولة على أمراء الشؤم، وتولّي زمام الأمور من جديد، على شكل حركات احتجاجية صاخبة وسلمية ومتحضّرة من المحيط إلى الخليج.

لم يعد لدى الشَّعب العربي ما يخاف عليه أو منه، فقد أوصله حكم الأنذال إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه شعب ما، من فقر، وأمراض، وجهل، وأمّية، وقهر، وسلب للحريات، وجوع، وانسداد لكلّ الآفاق، ونفاق، وكذب...

هل يستطيع الشّعب العربيّ تحمّل أكثر من ذلك أو سيتمكّن من هدم "الولايات العربية الأميركية" إلى غير رجعة والبناء من جديد؟