"العراق أولاً" يستدعي خروج أميركا أولاً
نتفهّم مواقف العراقيين الذين يرفعون شعار "العراق أولاً" ولا يخفون أهدافهم بأن يكون العراق محايداً يلبّي مصالح العراقيين أولاً.
قد تكون عملية اغتيال قائد قوة القدس الفريق قاسم سليماني صيداً ثميناً في نظر الإدارة الأميركية وبالنسبة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو، وكذلك بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، نظراً إلى الدور الخطير الذي اضطلع به الشهيد بحسابات هؤلاء، وخططه الهادِفة إلى تنظيم وتطوير فصائل المقاومة الممتدة على طول الحدود مع كيان الاحتلال الإسرائيلي من الشمال والجنوب، وفي العراق واليمن وغيرها، وتزويدها بصواريخ وإمكانات متطوّرة جداً شكَّلت تهديداً مباشراً واستراتيجياً لدولة الاحتلال والمصالح الأميركية وقواعدها وخططها في المنطقة.
قد يكون من الصعب على طهران فقدان رجل مثل الفريق سليماني، لما اتّسم به من ذكاء وحنكة ودهاء عسكري ومرونة في العمل وعلاقات وثيقة مع قادة قوى المقاومة وقواعدها التي كانت تكنّ له الاحترام والمحبة، ولكن التجارب التاريخية علّمتنا أن عمليات الاغتيال قد تؤذي الطرف الآخر ولكنها لا تُنهي المقاومة ولا تجلب الأمن والسلام للجانب المُنفّذ.
رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، علّقت على عملية الاغتيال بقولها إنها لا تعتقد أن "إدارة الرئيس دونالد ترامب، جعلت البلاد أكثر أمناً"، واصفة إياها "بالاستفزازية" و"غير المناسبة" والتصعيدية.
اغتيال سليماني أصاب الأمَّة الإيرانية في الصميم، ووحَّدها بشكل لم يحدث من قبل، ومشاركة الملايين في تشييع جنازته حوَّلته إلى رمز وطني، فيما انقسم العالم العربي والإسلامي المنقسم والمتشظي أصلاً، بين مُتشفٍّ وبين رافِض لعملية الاغتيال.
حركتا حماس والجهاد الإسلامي غرَّدتا خارج سرب بعض "الحركات الإسلامية" ووفتا الفريق سليماني حقّه من خلال مشاركة قادتهما في التشييع وتقديم العزاء، حيث أكّد رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية بأن المقاومة ما وصلت إلى ما وصلت إليه من القوَّة والصمود والعطاء إلّا بوجود قاسم سليماني، مُضيفاً "إنّ الشهيد القائد سليماني الذي أمضى حياته من أجل دعم المقاومة وإسنادها، هو شهيد القدس، شهيد القدس، شهيد القدس".
اغتيال سليماني فتح مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة بدأت بالرد الإيراني الصاروخي الذي استهدف القواعد الأميركية في "عين الأسد" وأربيل، ما يعتبر صفعة وسابقة من التحدّي لم تشهدها الولايات المتحدة في المنطقة، ولم تتمكَّن من الرد عليها خوفاً من الإنجرار إلى حرب مُدمِّرة لقواعدها ومصالحها، وخوفاً من أن تشكّل خطراً على دولة الاحتلال. المعركة الآن فُتِحَت على مصراعيها ضد القواعد الأميركية وشرعيتها في المنطقة وعنوانها المطالبة بإخراجها وإنهاء الخدمات الأميركية إن لم يكن بالوسائل السلمية كما طالب برلمان العراق وحكومته، فبالمقاومة.
لن يكون من السهل على ترامب القبول بذلك وهو الذي أقدم على عملية الاغتيال لتحقيق نصر انتخابي ولمنع أي تقارب بين إيران والسعودية، خاصة وأن الفريق سليماني كان يحمل رسالة جواب من حكومة بلاده رداً على رسالة سعودية وقت اغتياله بهدف تحقيق انفراج في الأوضاع في المنطقة. كما رد ترامب على مطلب الحكومة العراقية بالخروج من العراق بقوله إن "عليهم أن يدفعوا"، مُهدّداً بمصادرة حوالى 30 مليار دولار تعود للعراق في البنوك الأميركية، فيما شرع بالضغط على الدول الأوروبية للخروج من الاتفاق النووي وتشديد الحصار على إيران، حيث أعلنت بريطانيا وألمانيا وفرنسا الأسبوع الماضي تفعيل آلية فضّ النزاع الخاصة بالاتفاق النووي الإيراني، بعدما أعلنت طهران خَفْض التزاماتها.
وفي مواجهة المقاومة والجيشين العراقي والسوري بدأ ترامب وخبراؤه بإعادة النفخ بتنظيم "داعش" الإرهابي وإعادته إلى الحياة، بعدما تفاخر الرئيس الأميركي بأن بلاده حقّقت انتصارات على التنظيم الإرهابي الذي صنعته واستخدمته ذريعة لتواجدها في المنطقة.
ما قاله رئيس الوزراء العراقي المستقيل عادل عبدالمهدي كان عين الصواب والحقيقة: لا مخرج إلا بانسحاب القوات الأميركية من العراق. هذا هو المخرج الوحيد لمنع أي مواجهة انطلاقاً من العراق وعلى أرضه.
وتمثّل القواعد الأميركية احتلالاً أميركياً مباشراً، ليس للعراق وحده، وإنما لكل دول المنطقة، وهي تشكل تهديداً دائماً لعدم استقرارها وتقاربها وكذلك وسيلة لابتزازها وسرقة ثرواتها.
وليس منطقياً ولا سوياً لمن يطالب بإبعاد العراق عن المواجهات والمحاور أن يقبل ببقاء القوات الأميركية على أرضه. أخرج القوات الأميركية من العراق أولاً، ثم يمكنك بعد ذلك مطالبة إيران بعدم التدخّل في شؤونك، إن صحّ ذلك.
إن بقاء القوات الأميركية في العراق سيؤدّي حتماً إلى اشتباكها مع قسم وازن من الشعب العراقي يرى في إيران حليفاً طبيعياً ومنطقياً، من دون أن ننكر وجود انقسامات داخل العراق بشأن أميركا وبشأن إيران.
نتفهّم مواقف العراقيين الذين يرفعون شعار "العراق أولاً" ولا يخفون أهدافهم بأن يكون العراق محايداً يلبّي مصالح العراقيين أولاً. فقط نذكّرهم بأن العصابة الفاسِدة التي تجثم على صدورهم وتسرق ثرواتهم جلبها الاحتلال الأميركي بعد أن دمَّر العراق وقسّمه على أساس طائفي، كما نقول لهم لا تنسوا أن العراق كباقي دول المنطقة مُستهدَف من قِبَل الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي، ونذكّرهم بأقوال الرئيس المصري أنور السادات منذ أكثر من 40 عاماً عندما برَّر خطواته بالخروج من الصراع والتفاهُم مع دولة الاحتلال الإسرائيلي بقوله "مصر أولاً" وأن 99% من الحل بيد أميركا. فأين هي مصر اليوم؟