المرجعية عند المسلمين الشيعة.. قرون من التقاليد
الفقهاء الطلاب لا يطرحون كتبهم الفقهية طالما بقي أساتذتهم المراجع على قيد الحياة كعُرف مُتّبع في المؤسّسات الدينية.
قامت المرجعية الدينية الشيعية بدور جوهري في الشؤون السياسية والاجتماعية للمسلمين الشيعة منذ عام 941 للميلاد والذي يعرف في التاريخ الشيعي ببداية عصر الغيبة الكبرى.
وقد حدّدت المرجعية من تلك المرحلة أسُس العلاقة بين المرجع الفقيه وبين جماهير الشيعة في ما عُرِف بالاصطلاح الديني الشيعي بالمُقلّدين للمرجع، وصار هذا الارتباط خارج سلطة النظام السياسي الحاكِم بغضّ النظر إن كان النظام الحاكِم سنّياً أو شيعياً.
هذه الاستقلالية الدينية منحت الفقهاء المراجع استقلالاً مالياً بالاعتماد على أموال الزكاة والخُمس والأوقاف التي يحصلون عليها من جماهيرهم، ليصرفوها على المدارس الدينية والطلاب وعوائلهم مع تقديم الرعاية للمُحتاجين حسب الإمكان.
وفي العصر الحديث لعبت المرجعية دوراً محورياً في ظروف حسَّاسة ضد الاحتلال البريطاني والروسي والأميركي، بإصدار فتاوى كانت لها تأثيرات جذرية مثل فتوى السّيد محمّد حسن الشيرازي بتحريم التبغ في إيران عام 1891 ضد اتفاقية احتكار التبغ بين بريطانيا والشاه، وثورة الدستور في إيران عام 1905 بدعم من عدّة مراجع، وفتوى الشيخ كاظم الخراساني بالجهاد ضد الغزو الروسي لإيران عام 1909، وفتوى الشيخ محمّد تقي الشيرازي بحرمة المشاركة في استفتاء إقامة إدارة بريطانية في العراق عام 1919، وفتوى الشيخ الشيرازي بالجهاد ضد الاحتلال البريطاني فيما عُرِف بثورة العشرين في العراق عام 1920، وفتوى السيّد محسن الحكيم بحرمة الانتماء للحزب الشيوعي عام 1961، والثورة الإسلامية التي قادها السيّد روح الله الخميني وتأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979، وفتوى حفظ النظام للسيّد أبو القاسم الخوئي في عام 1991 خلال الانتفاضة الشعبانية ضد نظام صدّام حسين، وموقف السيّد علي السيستاني من قيام حكم عسكري أميركي في العراق بعد الاحتلال عام 2003، وأخيراً فتوى الجهاد الكفائي ضد "داعش" عام 2014.
كل تلك الفتاوى والمواقف السياسية للمراجع جعلت صنّاع القرار الغربي وخصوصاً في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا يبحثون عن ماهيّة المؤسّسة الدينية في العراق وإيران وسُبُل اختراقها أو التأثير عليها.
ومن حين إلى آخر تظهر دراسات من مراكز أبحاث غربية عن المرجعية الدينية، لكنها عادة ما تقدّم معلومات غير دقيقة تنمّ عن جهل بالنظام المرجعي. ومنذ احتلال العراق عام 2003 وحتى اليوم، تتحدّث وسائل الإعلام الغربية ومراكز دراساتها عن خليفة المرجع الأعلى في النجف وتأثير غيابه ومدى نفوذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية في صنع القرار المرجعي في النجف.
إن منظومة الاجتهاد الشيعي أعطت الفقيه المجتهد القدرة على إصدار فتاوى جديدة تلائم الوضع القائم. وفي العقيدة الدينية للمسلمين الشيعة يعتبر الفقهاء الكبار جامعي الشروط نواب الإمام الغائب، ولذا تتوقّع الجماهير من الفقهاء ألا يسكتوا على ظلم الحاكم وأن يتدخّلوا بما هو لصالح الأمّة وألا يكتموا حكماً من أحكام الشريعة إذا تمكّنوا.
وفي حال سكوتهم أو عدم تدخّلهم تغضب الجماهير وتفقد ثقتها بالفقهاء ولا ترى فيهم نواب الإمام واجبي الطاعة، وهو أمر لم يحصل عبر التاريخ الشيعي الذي يزخر بالمراجع الذين تصدّوا لأزمات الأمّة ومشاكلها مع وجود أقسى الحكّام، لأن طبقة الفقهاء المراجع عبر التاريخ شكّلوا طبقة وطنية حقيقية مثّلوا في كثيرٍ من الأحيان رغبات الشعوب وتطلّعاتهم.
ولا بد من تجمّع عدّة شروط في كل فقيه مُجتهد ليكون مرجعاً للأمّة، أهمها العلمية والتقوى. فالفقيه الذي يتصدّى للمرجعية يكون هو نفسه مقيماً في المؤسّسة الدينية المعروفة بإسم الحوزة العلمية منذ شبابه، حيث يدخل المؤسّسة الدينية قادماً من بلدته كطالب في مُقتبل العمر ويخضع للضوابط الصارِمة تحت إشراف أساتذته طيلة سنوات الدراسة، ثم يتزوّج ويقيم مع عائلته تحت رعاية مرجع من المراجع ويتنقل في المراحل حتى يصل إلى مرحلة الاجتهاد ويحصل على إجازة الاجتهاد من أساتذته المجتهدين المعروفين. وإذا ما رأى أساتذته أيّ تصرّف غير لائِق أو خروج عن الضوابط يتم إخراجه من المؤسّسة ومن التدريس، ويفقد الطالب سمعته التي لن تستردّ بسهولة.
وعندما يصل الطالب مرحلة الاجتهاد يتحتمّ عليه الحضور لدى كبار الأساتذة الفقهاء أو المراجع بشكل مُنتظَم مع المحافظة على السلوك الديني العالي من العبادات والتقوى. وهنا تظهر المَلكَات العلمية للطلاب المتفوّقين من خلال حضورهم وأبحاثهم ومناقشاتهم لأساتذتهم المراجع.
وبعد 40 أو 50 سنة من الدراسة والتدريس والبقاء في المؤسّسة الدينية بشكل متواصل، يصل الطالب إلى مرحلة الفقيه المُجتهد الذي بإمكانه التصدّي للمرجعية. والتصدّي للمرجعية يعني أن يقوم الفقيه بنشر كتابه في الأحكام الشرعية التي تتضمّن فتاواه في الشؤون العبادية والمعاملات المادية مثل أحكام العمل التجاري والمواريث. لكن هؤلاء الفقهاء الطلاب لا يطرحون كتبهم الفقهية طالما بقي أساتذتهم المراجع على قيد الحياة كعُرف مُتّبع في المؤسّسات الدينية.
على سبيل المثال، كان السيّد علي السيستاني طالباً لدى السيّد الخوئي مع أنه كان فقيهاً مُجتهداً قادراً على التصدّي للمرجعية. ولم يتصد السيستاني للمرجعية ضمن الطبقة الجديدة إلا بعد وفاة أستاذيه السيّد أبو القاسم الخوئي (1899-1992) والسيّد أبو الأعلى السبزواري (1910-1993).
وبعد الخوئي والسبزواري ظهر جيل جديد من المراجع، منهم السيّد محمّد صادق الصدر (1943-1999) والشيخ علي الغروي (1930-1998) والشيخ مرتضى البروجردي (1929-1997) والشيخ إسحاق فياض والسيّد محمّد سعيد الحكيم والشيخ بشير النجفي.
إن المرجعية الدينية لا تورَّث من مرجع إلى آخر وإنما تكون من خلال إجماع كبار المُجتهدين في المؤسّسة الدينية الذين يحضرون دروس المراجع الجدُد، عبر التقدير العالي لهذا العالم المجتهد من دون غيره حسب معرفته الدينية وتقواه ومؤهّلاته القيادية الأخرى.
وعادة ما يلجأ المجتهدون إلى طبقة من الفقهاء الذين لا يتصدّون للعمل المرجعي يُعرَفون بإسم أهل الخبرة، وهم العلماء الكبار من طبقة الفقهاء يساعدون المجتهدين الطلاب في تحديد المرجع الأعلى والفقيه الأكبر ضمن الشروط الصارِمة المعروفة في المؤسّسة الدينية.
وهؤلاء الطلاب المجتهدون هم حلقة الوصل بين الفقهاء المراجع والجماهير، وفي مقدّمة الجماهير الوجهاء والتجار والمثقّفون والأدباء وعامة الناس. وبهذه الآلية تعمل الحوزة العلمية في النجف وقم. ومن المستحيل لأيّ شخص غريب اختراق هذه المؤسّسة الدينية. وعبثاً حاولت أنظمة حاكمة عبر التاريخ صناعة فُقهاء مراجِع داخل المؤسّسة الدينية، لكن الأعراف والأنظمة الصارِمة أفشلت كل المحاولات.
والسؤال الذي يرغب صنّاع القرار الغربي بمعرفة إجابته: مَن سيخلف جيل السيّد السيستاني (المولود في عام1929) والسيّد محمّد سعيد الحكيم (1934) والشيخ اسحاق فياض (1930)؟ هؤلاء الفُقهاء المراجع الثلاثة عملوا بوئام واتفاق لقيادة جماهيرهم في الظروف الصعبة قبل 2003 وبعدها، ولا أحد حتى في المؤسّسة الدينية في النجف يعرف الإجابة.