نار العراق.. جيل الإنترنت ليس هو السبب
الأمور كما تبدو حالياً ليست في طريقها إلى الحل القريب، وهناك حاجة ماسَّة لتدخّل طرف يمكن أن تقبل وساطته.. فهل هناك من طرف كهذا؟
يصعب كثيراً فَهْم المجتمع العراقي بشكلٍ واضحٍ ودقيقٍ، لكثرة المؤشّرات والظواهِر التي تميِّزه.. ففيه من الطِباع والظواهِر المُتعاكِسة واجتماع النقيضين، ما يُحيِّر أعظم عُلماء الاجتماع.
من مشاكل الفرد العراقي، تفاعله بشدَّةٍ واندفاعه مع كل الحالات التي يمرّ بها، فهو غاية في الكَرَم والجود، ونُقِلَت عنه صورة تكاد تكون غير معقولة خلال الزيارات الدينية المليونية التي تحصل، لكنه بنفس الوقت ربما وفي ثورة غضب يمكن أن يصل الأمر به حدّ القتل، في خلاف على موضوع أتفه من أن يُقاس!
يشتهر عن العراقيين أنهم "إن ناموا ناموا وإن قاموا.. قاموا"، وهذه كما يبدو حقيقة أثبتتها وقائع الأيام، ولنا في انتفاضات ثورة العشرين وانتفاضة صفر عام 1979، وثورة 1991 ضد حُكم البعث وصدَّام، وغيرها كثير من الانتفاضات، التي توضِح أنهم مهما سكتوا أو صبروا، فإنهم يثورون ويقدِّمون تضحيات جسيمة، في سبيل تحقيق ما يريدون.
بالرغم من تغيّر حياة العراقيين بعد عام 2003 "باتجاهٍ إيجابي" مُقارَنة بما عاشوه خلال حقبة الحُكم البعثي، لكنه كان تحوّلاً بطيئاً مليئاً بالاضطرابات والقتال والموت، ناهيك عن تدهور الظروف الاقتصادية مُقارَنة بما كان يحلم به الناس.. وهذا نتيجة لمؤثّرات اقليمية ودولية وعوامِل داخلية ذاتية، تتعلّق بحَدَاثة ممارسة التجربة الديمقراطية. لكن ما كان يُصبِّر الناس على فشل حكَّامهم المُتكرِّر، هو القرب الزماني لما عاشوه من أهوالٍ خلال حُكم صدَّام لبلدهم، وخوفهم من عودة أشباح الماضي.. أو هكذا صُوِّر لهم.
أخطر ما لم ينتبه إليه ساسَة ما بعد عام 2003، هو ظهور جيل جديد، يُشكِّل نسبة ليست قليلة من المجتمع، لم تكن بعُمرٍ يسمح لها بفَهْمِ ما كان يجري خلال حُكم البعثيين، وبالتالي هؤلاء لم يعانوا كثيراً من ظلامات تلك الحقبة، باستثناء حكايات هنا وهناك، يسمعونها عن إعدامات أو غُرَف تعذيب وتذويب لأجساد المعارضين بالحامض، وأفلام قصيرة عن تهتّك وفساد وانحلال أخلاقي لأولاد الطاغية وجلاوزته، لكنها بقيت مُجرَّد حكايات وأفلام فقط، ولم تؤثّر في ضمير ووعي هذا الجيل حقاً.
هذا الجيل ونتيجة لما يمكن أن تنقله القنوات التلفزيونية والإنترنت اطّلع وبشكلٍ مُفصَّل وأحياناً بشكلٍ مُبالَغ فيه، على حياة الرفاهية التي تعيشها دول أخرى، وصار يُقارِنها بما يعيشه هو من مشاكل تتعلَّق بقلَّة فُرَص العمل، وسوء الحال الاقتصادية، وكمّ الفساد الهائِل والفضائح التي نالت كثيراً من المُتعاملين بالشأن السياسي.. ما جعله يصل حدّ الغليان لينفجر.
ضعف أداء الحكومة الأخيرة وبطئها، وبالرغم من أنها لا تتحمَّل مسؤولية الفشل المُتراكِم منذ 16 عاماً، لم يقنع المجتمع، بأنها يمكن أن تكون حكومة تصلح لتحمُّل التبعات المُتراكِمة من المشاكل، وأنها يمكن أن تقدِّم حلولاً لها، أو في الأقلّ يمكنها أن تضع الأمور في طريق التصحيح، فتطوَّرت الأمور ووصلت طريق اللاعودة.
من الواضح أن المشكلة الأكبر ليست في تقديم خدَمات أو تصحيح وضع اقتصادي، فهذه أمور يعلم الجميع أنها قابِلة للإصلاح لكنها ربما تحتاج إلى سنوات، لكن المُعضِلة الأصعب تتعلَّق بفُقدان الثقة بين الساسَة والمجتمع، وهو أمر له أسباب منها ما هو حقيقي، ومنها ما هو مُصطنَع لأهدافٍ وأجنداتٍ مُتعدِّدة.
الأمور كما تبدو حالياً ليست في طريقها إلى الحل القريب، وهناك حاجة ماسَّة لتدخّل طرف يمكن أن تقبل وساطته.. فهل هناك من هكذا طرف؟
من الواضح أن تحديد هكذا طرف صعب، مع كثرة اللاعبين الاقليميين والدوليين ومَن يتماهى معهم من لاعبين محلّيين، وفي خضمّ حملة تسقيط كُبرى لم يسلم منها أحد، تقودها دول ومخابرات وتموَّل بمبالغ فلكية. لكنه ليس من المستحيل، فهناك أطراف مازالت عندها مصداقية كبيرة في المجتمع ويخشاها الساسَة، فهل ستنجح هذه الأطراف في حلّ الأزمة الفِتنة، بوجود لاعبين كبار يحاولون صبّ الزيت على نارها؟